في ليلة 27 يوليو، توجهت أنظار ما يزيد على مليار شخص في أرجاء العالم إلى الملعب الأولمبي في لندن حيث تم الاحتفال بافتتاح دورة الألعاب الأولمبية لهذا العام. ولقد شاهدت هذا الحفل الرائع مع بعض الأصدقاء السعوديين في حفل سحور استضافته القنصلية البريطانية في جدة. فما الذي رأيناه في هذا الحفل؟ لقد شهدنا جميعا التحدي الحقيقي الذي واجهه داني بويل، المخرج الفني لحفل الافتتاح، ليصور الشعب البريطاني ومجتمعه للعالم أجمع في فترة زمنية لا تتجاوز الثلاث ساعات. ويجب عليكم الآن أن تحكموا بأنفسكم حول مدى نجاحه في تحقيق ذلك، إلا أنني آمل أن جميع من شاهد هذا الحفل قد تمكن من تكوين صورة إيجابية وربما أخرى جديدة لبريطانيا الحديثة. ولقد استوحى داني هذه الرؤية من التفكير في شعوب الجزر لدينا، فبدأها متسائلا: من كنا؟ ومن أين أتينا؟ ما هو تاريخنا وتراثنا؟ من نحن الآن؟ وإلى أين نتوجه في بناء مستقبلنا؟ وكما هو الحال لدى شعوب الشرق الأوسط، ما كنا لنشهد هذا الازدهار لولا أن بدأنا نشجع على تبادل البضائع والأفكار والشعوب. فإن استعدادنا لتبني كل جديد وقدرتنا على التكيف قد أثرت على طريقة تواصلنا مع العالم خلال الثلاثة آلاف سنة الأخيرة. ويشهد التاريخ علينا في تواصلنا مع العالم من حولنا وترحيبنا بالشعوب والحضارات الأخرى. فإن لغتنا الأم المستخدمة في كافة أنحاء العالم قد تأثرت على مضي 12 قرناً باللغة الإنجليزية القديمة واللغة الإسكندنافية والفرنسية واللاتينية واليونانية والهندية وغيرها من اللغات، والعديد من الكلمات العربية أيضا. كما إن السيادة القانونية والقضائية لدينا تجد تقبلا دوليا، وجعلت من لندن مركزا ماليا وتجاريا عالميا. ومن خلال ذلك تمكنا من تصدير ثورتنا الصناعية إلى العالم أجمع. كما خلف الشعراء والروائيون والكتاب المسرحيون البريطانيون وراءهم إرثا عالميا. إذ لم يخف عن العالم أجمع أن المخرج داني قد استلهم فكرة الحفل من خطاب ورد في مسرحية "العاصفة" للروائي الكبير وليام شكسبير. وكذلك كانت المشاهد الأولى التي صورت رؤية الشاعر وليام بليك للريف البريطاني الذي تمثل بأبهى حلله في مشهد بعنوان (بريطانيا الطبيعة والبهجة). فإن هذا التاريخ الغني والنابض بالحياة يعكس ما تمثله بريطانيا من فخامة وعراقة تتجلى في احتفالاتنا بالمناسبات الملكية أو بحضورنا لمباريات الكريكت المسائية التي تقام يوم الأحد على أرض بريطانيا الخضراء. وبالرغم من أن العديد من عاداتنا وقيمنا وأنظمتنا ومبادئنا قد تشهد تغييرا طفيفا مع مضي الزمن إلا أننا في الواقع نعيد ابتكار أنفسنا. فإن جذورنا المتأصلة عميقا تمدنا بالقوة والثقة اللازمتين لنعبر عن أنفسنا من خلال حفاظنا على تقليدنا الحي الذي يدفعنا للبحث والاستكشاف والإبداع. وقد كان هذا الحفل الافتتاحي خير دليل يعكس كلا من ماضينا الريفي والصناعي لدينا. ولا بد أنكم قد لاحظتم، كيف انقسم الملعب إلى جزأين مختلفين، أحدهما مثل الماضي بعرض موسيقي كلاسيكي أعاد إلى الذاكرة مشاهد حية من "الليلة الأخيرة من البروم Last Night of the Proms" بينما مثل الجزء الآخر الجانب الصاخب من الموسيقى المعاصرة التي تستشعرها في مهرجان جلاستونبري. تعكس هذه العروض جوانب مختلفة من مجتمعنا تتسم بالحيوية والحماس والطاقة. كما إن التفاني المذهل الذي رأيناه لدى 10.000 متطوع بذلوا وقتهم وطاقتهم للتمرن على هذا الحدث الضخم يعد أكبر دليل على ذلك أيضا. لقد مثلوا بالفعل أفضل ما نحن عليه كأمة واحدة. ولقد كان أفضل مشهد استمتعت به بالحفل هو الرقصة التي ضمت مستشفى «غريت أورموند ستريت» للأطفال (المعروفة ب GOSH) والتي يتم تمويلها جزئيا من عائدات كتاب الأطفال الرائع "بيتر بان" للكاتب المشهور جيمس باري، الذي تم عرض اقتباسات منه في الحفل الافتتاحي. وتعد هذه المستشفى رائدة في مجال طب الأطفال، فإنها بالعناية والرعاية الطبية التي تقدمها للأطفال تلخص أهم الجوانب الإنسانية المتمثلة بأسمى معاني الرحمة والكرم ومساعدة الضعيف والمحتاج والتجرد من حب الذات. إذ لا يمكن لأحد منا أن لا يستشعر معاناة الأطفال في كافة أنحاء العالم ويتأثر بها. تعمل اثنتان من أخواتي بالتمريض. وإني ليغمرني الفخر العظيم بما تبذلانه من جهد في عملهما وبما تقدمه مستشفى GOSH من رعاية طبية. أود أن أختم مقالي متمنيا النجاح للفريقين البريطاني والسعودي في دورة الألعاب هذه، ومعبرا عن سعادة الشعب البريطاني للترحيب بزواره من شتى أصقاع الأرض في هذا الصيف الحافل وفي ما يخبئه المستقبل من مناسبات أخرى كذلك. قد نشهد تغيرا بالأجواء وقد تمتلئ السماء بالسحب الماطرة، إلا أننا يجب علينا الاقتداء بما قاله كاليبان في مسرحية "العاصفة": (لا تجزعوا. فمهما كثر الضجيج وتعالت الأصوات وهبت الرياح في الجزيرة فإنها تجلب البهجة... لا الحزن). * السفير البريطاني لدى المملكة