تسألني الصحفية الشابة وقد دفعت نظارتها إلى آخر أرنبة أنفها: - ما مواصفاتك لاختيار رئيس جديد للبلاد؟. أنا، بقدرة قادر، صمت، وتذكرت الستين سنة التي أمضيتها بالتمام والكمال، لم يسألن احد هذا السؤال وأنا كما يعرف سيادتك من الذين إذا ضاقوا بما نحن فيه هربوا للحلم، وعندها أتذكر طيب الذكر، سيد السرد، وملكه المتوج "جارثيا ماركيز" الذي قدم رئيس دولته في روايته "خريف البطريرك" وزير دفاعه مذبوحا، ومشويا، محاطا بالبقدونس والبصل والحبهان والقرنفل والصنيبر، والجنزبيل وكل فواتح الشهية، داعيا كل أفراد حاشيته وقال لهم متفاخرا: كلوا هنيئا مريئا السيد رود ريجو وزير دفاعنا بالهناء والشفاء. من يومها أدركت أن الرئاسة سلطة، وان السلطة في عالمنا الثالث تقود طوال الوقت للتعبية، وتقديس ما لا يجب أن يقدس، وان الذات المتبوعة تقدم نفسها على أنها ذات أهم من البلد التي تحكمه. وبالتالي، وبسبب معه أنك تعرفني بأنني مواطن عاش عبر خمسين سنة كل خيبات الأمة، وهزائمها، ورأى ثلث قومه يغادر البلاد بحثا عن رزق يواجهون به صعوبة الحياة، ورأى بلاده تصالح، من غير أي ضرورة عدوا لا يعرف الرحمة، وعاش ثلاث حقب من حكم لرؤساء ثلاثة كان خاتمتهم بطريركا، رأينا في أزمانه العجب العجاب، من عشوائيات، وغنى بلا معنى. حلمت برئيس على قد الناس، اطلبه أكثر إنسانية، يرى التحول هو تحول حياة الناس إلى الأحسن، في الحياة وفي الموت، يحلم دائما بالتغيير، يعمل له، وينقل مواطنيه من حالة الضرورة القصوى بحثا، عن تعليم أفضل، وصحة صحة، واستقرارا يعيد ما كانت تتمتع به البلد قديما، حينما كانوا يصفونها بأنها أنظف من باريس ولندن، وإنها وطن يقدس الحرية، ويفتح أبوابه للمضطهدين الساعين إلى أفق من الأمن والأمان. وقلت: أريده عادلا يمسك بيده اليمنى القانون، وباليسرى حق الناس ليصل لصيغة تضمن لهم العدل والمساواة، كما أنني أريده عفيف النفس، يرتفع بذاته عن الدنايا، غير مستبد برأي، ولا يعتمد على قوة حاشيته لتنفيذ أهدافه، ولا يعيش مهاجراً طوال حكمه بان ثمة مؤامرة تحاك له، وان جماعات من مواطنيه يجيوشون إفرادهم للانقلاب عليه، فيقوم هو بتجييش جنوده واعتقال الناس، ورميهم في السجون حتى النسيان، كما أريده أن يعرف شيئا من تاريخ بلده، ويقف متأملا أحوال الناس، وصيرورة حياتهم، وإدراكهم لاسئلة يبحث عن إجابة تعينهم على: العيش بسلام أريده يحترم القانون وقناعات الناس، والتعدد، وتقديس رأي الآخر، والعمل على تأكيد المواطنة، وان الجميع سواء في وطن لا يعرف الاستبعاد، أو الاضطهاد أو التعصب. تأملتني الصحفية، وقد روعت وجهها الدهشة، ولاحظت أن عينيها تخفق في فزع، ودفعت بالنظارة على أرنبة انفها، وصرخت في وجهي صرخة سمعها القاصي والداني وقالت. نعم ؟!! عاوز كل ده؟!! .. ابقى تعال قابلني!! وانتزعت حقيبتها من إمامي، ومضت مسرعة.