الانفتاح ثقافة تسري، وسحابة تتسع، ومن يزور بلدان الإسلام، عربية كانت أو غير عربية، لا تخطئ عينه الانفتاح الكبير الذي تعيشه تلك المجتمعات، وخاصة في قضية عمل المرأة، وهذه المجتمعات لن تتراجع للوراء، وإن تمنى ذلك بعض الخبراء هنا! وهذا ما يجعلني أقول واثقا: إنّ الثورات الشعبية، المحيطة بنا، ستقودنا إلى الانفتاح أكثر نحن جميعاً نخدع أنفسنا! إذ قناعاتنا وميولنا ومخاوفنا تُعطينا تصورا للتحولات العالمية والعربية، وترسم لنا خارطة، كثيرا ما تصبح وهمية، لما تكون عليه الأمور في المستقبل، فنحن لا نستطيع أن نرى في الواقع خلاف ما في أنفسنا من أمانيّ أو قناعات أو مخاوف، ووفق هذا التصور يجمل بنا أن نفهم قول الحق - سبحانه -: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). فهذه الآية الكريمة خير عون لنا في سبيل تأكيد صلة الأفكار والقناعات والميول والمخاوف بالواقع الذي يعيشه الإنسان، وهذه الأشياء هي الفروض التي تُحدد رؤيتنا، وتبني منظومة أفكارنا، وعلى هذا فلسنا نرى الواقع كما خلقه الله - تعالى - أمامنا، نحن نرى الواقع كما اختارت تلك الفروض أن نراه، وهذا ما يجعل الإنسان الواعي بأثر الفروض القبلية دوما يفصل بين آرائه والواقع، ويُؤكد على هذا الفصل، وإنْ تحمّس لرأيه، بطرق مختلفة، تنزع من نفوس الناس شعورهم بأنّ ما يقوله هو حديث الواقع إليه، فالواقع شيء، وآراؤنا فيه شيء آخر تماماً. وإذا كانت العلمانية، بمفهومها الشائع، تعني الفصل، فنحن محتاجون لتوظيفها في فهم العلاقة بين الواقع ورأينا فيه، ومن لا يفصل بين الواقع ورأيه يشارك في دوام زواج قائم على السفاح، الواقع فيه المرأة، والرأي فيه الرجل! تلك هي طبيعة العلاقة بين الواقع ورأينا فيه، ومن الواقع الذي يجمل بنا فصله عن آرائنا هذه الثورات العربية، التي أتت بالإسلاميين إلى إدارة الدولة، فآراؤنا فيها شيء، وواقعها ومستقبلها شيء آخر؛ لكننا مع ذلك ننتصر لآرائنا، ونتحيّز لاختياراتنا، وعلى الآخرين أن يقرأوا ما يُكتب هنا وهناك كمُقاربات في قراءة تلك العلاقة الأبدية بين الواقع والرأي، تلك العلاقة التي يتخادع صاحباها، والضحية نحن! جاءت الثورات العربية، وجلبت معها حِراكا ذهنيا كبيرا، وصريرا للأقلام طويلا، فرأينا المتخوف من الثورات أن تكون عوناً للتقليدية القائمة على إزهاق العقل، وحجب حرية الفكر، ورأينا طائفة أخرى ترى في الثورات، بعد فوز الإسلاميين، أملها المنشود في بعث الإسلام من جديد، كما تصورته هي، وليس كما يبدو لها من خلال الإسلاميين الذين صارت لهم الجولة الأولى في تلك البلاد، أو ستصير لهم في بلاد أخرى عما قريب. في المواقف المختلفة من فوز الإسلاميين يهمني رأيان؛ رأي دعاة العقل الإسلامي، الذين لم يستبشروا كثيرا بفوز الإسلاميين، وأقلقتهم الشكوك، وهذه الطائفة لن تفجؤها نهاية الثورات؛ لأنها قد غلّبت جانب اليأس، وشككت في المصير، ومتى ما رأت الانفتاح في قادة الإسلام السياسي، فسيُسرى عنها، وتسعد بما تراه، وترضى به، ولو كان قليلا، وتسعى بجد إلى تأييده، والدفاع عنه، والدفع بأهله إلى آفاق جديدة، فالإسلام الحر رهانها الذي لا تفتأ تتحدث عنه، وتواجه العاطفة المذهبية بمبادئه. والرأي الثاني هو رأي دعاة العاطفة المذهبية، الذين تخدعهم الشعارات دوماً، وتضللهم اللافتات، فيحسبون كل سوداء تمرة، وكل بيضاء شحمة، يخالون من ينادي بالإسلام ليس له مصير إلا مصيرهم، ويحسبون من يرفع رايته يقصد ما في ذاكرتهم من المعاني والبنود، دعاهم إلى ذلك إيمانهم بما هم عليه، ومحاربتهم لكل انفتاح على الآخرين، وما داموا يفترضون أنّ ما هم عليه هو الإسلام، فما من شك أنهم ينتظرون من تلك الثورات أن تسير على نهجهم، وتقتفي أثرهم، وستكون ردة فعلهم شديدة حين تفجؤهم الأحداث المستقبلية كما كانت تفعل بهم ذلك دوماً، فهم الذين حاربوا أجهزة الاستقبال، وكانوا يظنون أنهم يحاربونها باسم الإسلام؛ لكنهم فوجئوا أن الناس لم يأبهوا لقولهم، ولم يسمعوا لكثرة حديثهم، فخابوا وخسروا، وفتح الله - تعالى - للناس خيرا عميما بعد أن ردوا رأيهم، وأغفلوا نصيحتهم؛ لكنهم ما زالوا يحاربون باسم الإسلام كل جديد، يشمون منه رائحة معارضة ما ظنوه ديناً، ولست أظن مستقبل الثورات، التي سيقودها في البداية الإسلاميون، سيجري على نحو، لم تجر عليه تلك الوقائع. أمامنا فرضان في التنبؤ بمستقبل الثورات حين يقودها الإسلاميون؛ الأول لدعاة العقل الإسلامي، والثاني لدعاة العاطفة المذهبية، الأول يتوجس خيفة، ويعود جزء من توجسه إلى صراعه في الداخل مع جبهة العاطفة المذهبية، فهذا الصراع جعله يغفل عن الاختلاف الكبير بين شعوب هذه البلدان، وبين شعبه الذي تُشكِّل جزءا كبيرا من وعيه جماعة العاطفة المذهبية، لقد نظر إلى الإسلاميين هناك كنسخة من دعاة الانغلاق هنا، فطغى عليه الشك، واستبدّ به القلق تجاه مستقبل تلك الشعوب، ولم يكن قادرا في ظل الصراع الشديد مع مخالفيه في بلاده أن يقرأ الأحداث الخارجية بعيدا عن ذلك؛ لكنه - حسب رأيي - لو تأمل الخارطة الاجتماعية، مثلا في مصر أو سورية، لعرف أن نموذج الانغلاق هنا حتما لن يجد طريقه إلى تلك البلدان، وإن عُمّر ذوو العاطفة المذهبية عمر نوح - عليه الصلاة والسلام - فتلك بلدان تشربت الانفتاح الاجتماعي، ولم تعد مخاوف المنغلقين جزءا من خلفيتها الدينية، تلك مجتمعات تجتمع فيها عناصر، يصعب معها أن يُعاد تشكيل الخارطة الاجتماعية بعيدا عنها، ومن أهمها التنوع الديني، والانفتاح الاجتماعي، وهما يؤديان إلى الرضوخ للتداول السلمي للسلطة، ويمنعان من استبداد طائفة دون أخرى، ويأتي بعد هذا وقبله ملل الناس من الدخول في صراع من جديد، فالثورات بمراراتها علّمتهم شيئا، لم يستطع، ولن يستطيع، أن يتعلّمه هؤلاء الذين لا يُفرقون بين الأهم والمهم، هؤلاء الذين لا يقبلون بالتنازل، ويعدّونه جرمهم الأكبر، وعدوهم الأدهى، هؤلاء الذين يخالون من عانى وكابد مثلهم في تصور الحياة، واستشراف المستقبل، ثمة تباينات كبرى بين حال المنغلقين هنا، وحال الإسلاميين هناك، وهذه التباينات تجعل فرصة تكرير تجربة العاطفة المذهبية حلماً، لا أكثر. والفرض الثاني لذوي العاطفة المذهبية، وهم مثل إخوانهم أولئك نظروا إلى فوز الإسلاميين من خلال صراعهم، فصار كأمل لهم، وطوق نجاة، هكذا دفع بهم الصراع مع تيار الانفتاح، فحسبوا فوز الإسلاميين رصيدا لهم أمام أولئك، وبدأوا يختبرون ظنونهم، ويرسلون رسائل إلى القادة الإسلاميين الذين اختارتهم الشعوب، لعلهم أن يلتقطوا الإرسال حول هذه القضية أو تلك؛ لكن القادة هناك تُملي عليهم جماهيرهم، ونخبهم ما يعملونه، وليسوا يفكرون مجرد تفكير في أصحابنا هؤلاء الذين فتحوا دكاكين لهم على التويتر، وخدعوا أنفسهم حين ظنوا أن الثورات تبحث عنهم؛ ليقودوها، فاندفعوا يُذكّرون الإسلاميين في مصر مثلا بشيء مما علموه؛ ظناً منهم أن المسلمين هناك كأتباعهم هنا، ينتظرون بنات أفكارهم حتى ينسجوا مستقبلهم عليها، ويبنوا دولتهم الحديثة وفقها! لقد كانت حياة الصراع بين أطياف المجتمع ذات أثر في تقييم الثورات، وتوقع مستقبلها، وأحسب الثورات لن تحقق أحلام هؤلاء، ولن تكون في بؤس الصورة التي يرسمها أولئك، وما أتوقعه، وأجد بوادر مقدماته، أن يكون فرح اليائسين في المستقبل أكثر من فرح المتفائلين بها، والضربة التي ستوجهها الثورات للمتفائلين ستصير شديدة؛ لأنهم ظنوا أنها ستأخذ بطريقتهم، وتهتدي بهديهم، فإذا بان لهم خلاف ذلك، سيسرعون إلى النزاع، ففي مقدورهم أن ينازعوا حول قضية فقهية واحدة، ويحوّلوا الهامش إلى متن، وفي النهاية يخسرون، ويبطل ثواب أجرهم. لم يستطع المفكرون والمثقفون حلحلة ثقافة التشدد في نفوس كثير من الناس؛ لكن هذه الثورات، التي يقودها الإسلاميون، ستصبح القشة التي تقصم ظهر البعير! ربما أكون أبعدت في الفأل؛ لكنني أرى حركة التأريخ في حركة الشعوب، وما للإنسان العادي أن تجري حياته خلاف اندفاع حركة التأريخ، فعلى طوائف التشدد عندنا - وخاصة الفريق الذي يُناوئ الدولة ورجالها في عمل المسلمة واستغنائها بنفسها - أن تنتظر صولة الشعوب ضدها، وتحسب للحدث حسابه، فوعي الشعوب سيضعكم ومن انقلب إليكم بعد حينٍ من بعده عنكم، في المنطقة التي يعيش فيها كل من لا يستطيع رسم الحدث في الحياة. الثورات ستزحف إليكم، وتُضيق الخناق على وعيكم، وتجتمع عليكم مع بلاد الإسلام الأخرى، التي أنست بالانفتاح، وعاشت في ظله، ستُصدَّر لكم ثقافة الانفتاح من جبهات متعددة، بعد أن مكثتم زمنا غير يسير، تُصدرون ثقافة الانغلاق، وتودون لو تستلبون تلك الشعوب بها، ولن يبعد الوقت الذي نسمعكم فيه تسبون تلك الثورات وتشتمونها؛ لأنها سهّلت انفتاح مجتمعكم، الذي ضيّع المحافظة التي كنتم تنشدونها، وتتخذونها حجة لكم في المعارضة! قريباً سيخجل أولئك الذين ارتدوا بعد أن رأوا الثورات يقودها الإسلاميون، قريبا سيدركون أنهم قرأوا الحدث من خلال إيمانهم القديم بأطروحات العاطفة المذهبية في بلادهم، فظنوا كما ظن رجالها أنّ هذه الثورات ستعزز وجودهم، وتقوّي مفاهيمهم الدينية، قريباً سيفتحون عيونهم على أنّ التشابه في التسمي بالإسلام لا يعني أبداً أن يكون الجميع يرسمون المستقبل بالطلاء نفسه، وعندها لن يجدوا طريقا غير العودة من جديد إلى حيث كانوا، فتتجدد دماؤهم الآسنة بالحديث من جديد عن الحرية الفكرية، وحقوق المرأة المسلمة. الانفتاح ثقافة تسري، وسحابة تتسع، ومن يزور بلدان الإسلام، عربية كانت أو غير عربية، لا تخطئ عينه الانفتاح الكبير الذي تعيشه تلك المجتمعات، وخاصة في قضية عمل المرأة، وهذه المجتمعات لن تتراجع للوراء، وإن تمنى ذلك بعض الخبراء هنا! وهذا ما يجعلني أقول واثقا: إنّ الثورات الشعبية، المحيطة بنا، ستقودنا إلى الانفتاح أكثر، وستصبح عوناً للدولة ورجالها في زعزعة ثقافة المنع، وسيأتي اليوم الذي يشعر فيه فريق الحق المطلق هنا أنهم خارج السياق الإسلامي، وحينئذ لا تسأل عنهم، ولا عن جماهيرهم! فالإنسان يوجد حيث يكون من يثق به، ويجمل حدسه فيه، ومن لا يثق بالناس، ولا يحسن الظن بهم، فحريّ به أن يلزم بيته! فقد اختار الناس بروز نجمهم، وأفول نجمه.