لا تأخذك الدهشة بعيداً حين تجلس على مقعدك داخل الطائرة وتجد طفلاً يتفحصك، ويتلمس جوالك أو حقيبتك أو كتابك الذي تقرؤه، وأنت لا تعلم إن كان هذا الصغير قد ضلّ عن أسرته أم قصدك تحديداً ليتعرف عليك!.. "الفضول صفة وراثية"؛ هذا ما يردده البعض ممن تعرضوا لفضول الصغار، الذي يقابله ابتسامة عريضة من آبائهم ولسان حالهم يقول "رجاءً تحمل أطفالنا، إنّهم فلذات أكبادنا". كثيرون هم من لا يكترثون بإنزعاج الآخرين من أصوات وتصرفات صغارهم، والبعض منهم يعتقدون أنّ الآخرين مجبورون على التحمل واللطف مع أطفالهم، في الطائرة أو المطار، أو في القطار أو مراكز الانتظار، وفي المطاعم، والمقاهي، والمساكن.. إنّهم جيران المسكن، والمكان، والوقت، يجاورونك معتقدين أنّه من الحق أن تصمت عن كل إزعاجهم، تدخلاتهم، وأحياناً أذيتهم.. حتماً لا لوم على الصغار ولكن الأصابع تتجه نحو الأهالي، فمن المسؤول الأول غيرهم عن زرع ثقافة احترام خصوصيات وراحة الآخرين؟. "الرياض" من خلال هذا التحقيق تستعرض بعض المواقف الواقعية التي لا تخلو من الطرافة المغلّفة بالغضب لأشخاص تعرضوا إلى "إزعاج الأطفال". ساعات من المعاناة بدايةً ذكر "عدنان الغفيلي" -موظف بشركة الكهرباء- أنّه لديه ثلاثة أبناء سافر معهم الصيف الماضي إلى إحدى دول شرق آسيا، وأثناء الرحلة حصل مع العائلة ما جعل الرحلة أسوأ ما عاشته -على حد تعبيره-، حيث بدأت المعاناة بطفل الأسرة التي تجلس على المقاعد التي تسبق مقاعدهم، والذي كان يرمي بالأشياء إلى الخلف لتؤذي ابنه، وتسبب في خوفه وانزعاجه وبكائه طوال الرحلة التي استمرت سبع ساعات، مبيناً أنّ والد الطفل لم يكلف نفسه حتى مسؤولية النظر إلى ابنه المصاب، حيث تورمت جبهته بسبب أذى ابنه الذي يكثر من حركته داخل ممرات الطائرة، يضرب هذا، ويضحك في وجه ذاك، ويؤذي بعض الجالسين بفتح طاولاتهم، موضحاً أنّ الأب كل ساعة تقريباً ينهض من مكانه ليمسك بيد صغيره ذي الخمس سنوات، ليسحبه أمام الجميع وهو يهز رأسه يميناً ويساراً متحسباً على جميع الأطفال وكأنّه يقول لباقي الآباء: "عليكم أن تشاركوني المعاناة!". الوالدان يتمتعان ب«برود عجيب» و«لا همهم».. والمتضررون يلتقطون أنفاس «الزعل» وأضاف: إنّه أمرٌ مضحك مبكي، إذ أنّ الأب وابنه أغضبا الكثيرين، والذين كانوا ينظرون إلى الوالد بنظرات إزدراء، غير أنّ أحدهم لم يجرؤ على عتابه أو الحديث معه، وحقيقةً بعض الناس يشعرونك برغبة قوية في أن تمسك بثيابهم، وتسحبهم بالقوة، لتلقي عليهم محاضرة في التربية، كما أنّ جزءاً من اللوم يقع على الموظفين والموظفات داخل الطائرة، حيث أنّ أغلبهم يخجل من إعطاء بعض التعليمات للركاب الذين يصطحبون أطفالهم المزعجين، وما أعنيه هو أنّ المضيف أو المضيفة عليهم راحة المسافرين، وكان من باب أولى أن يمنعوا الأطفال من التجول داخل الطائرة" قمة الازعاج حين يعلو الصوت فوق الجميع قطع علاقات وبيّنت "فاطمة عبدالجليل" أنّها كلما وضعت عند باب منزلها شجرة طبيعية تجد أوراقها مقطعةً على الأرض، وقد هشمت تماماً، موضحةً أنّها وبعد فترة من المراقبة خسرت خلالها ما لا يقل عن أربع شتلات قيّمة فوجئت أنّ الفاعل هو طفل جيرانها، الذي يدرس مع ولدها، مشيرةً إلى أنّها خجلت من الحديث مع أمه بشكل مباشر، فكتبت لها رسالة مهذبة تذكرها فيها بوصية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وحق الجار، وأنّ على الوالدين مسؤولية توجيه الصغار لإحترام الآخرين وممتلكاتهم، وأنّها تضررت من ولدهم الذي شاهدته بعينها وهو يقطع النبتة، كاشفةً أنّها وضعت الرسالة على باب شقتهم، وبعد يومين وجدت رسالة على بابها كتب فيها سطرين "إبني لم يفعل ذلك، وتحققي قبل أن تظلمي الناس، أنا ولدي متربي أحسن تربية"، متسائلةً: "هل من المعقول أن تقطع علاقتي بجيراني بسبب هذا الموضوع؟، وهل يجب أن أتحمل وأصمت على الأذية؟، ثم كيف لي أن أحافظ على علاقتي بالآخرين وأستطيع في الوقت نفسه نقد سلوكياتهم؟، والله كانت رسالتي لجارتي تلك في منتهى اللباقة، ولم أتحدث بشكل قاسٍ أبداً، وأنا أعرف ما كتبته تماماً، وبالرغم من ذلك للأسف خسرت علاقتها، وحتى ولدها لم يعد يصاحب ابني ولا يتكلم معه أو يتعامل معه مطلقاً!". عائشة بركات:«تربية احترام الآخرين» تبدأ قبل الخروج من المنزل شكوى للشرطة واشتكى "محمد عبد السلام الأحمري" من أطفال جيرانه الذين كسروا نافذة سيارته أكثر من مرة، مبيناً أنّ آخر مشاكسة منهم وجد أنّهم كسروا بيضاً على زجاج سيارته؛ مما جعله يفقد أعصابه ويتوجه إلى جاره لتتطور المشكلة، حتى بلغت مركز الشرطة في الحي الذي يسكنه، وكانت نتيجة ذلك أن حصلت قطيعة بين الجارين مضى عليها الآن أكثر من عامين. صالة الانتظار وقالت "جميلة العسيري": "كنت أعتقد أنّ الناس تطورت، والمجتمع أصبح أكثر وعياً في هذه الأمور، حتى قابلت تلك الأم في صالة الانتظار بالمستشفى، وكنت أنتظر دوري، وإذا بطفل في الرابعة من عمره يقفز فوق طاولة الغرفة، ويلهو، ثم ينتقل إلى المقاعد، تاركاً أتربة حذائه على أي مكان تطأه قدماه، ممسكاً بكل أجزائها بيديه المليئة بزيت البطاطس -الذي كان يأكله أثناء لعبه-، وقد أزعج الجالسات، غير أنّ البعض لم يلتفت إلى الأمر مطلقاً، فسألت نفسي هل يبدو الوضع طبيعياً وانزعاجي من الطفل غير مبرر؟، هل لأنني لم أنجب بعد ولم أجرب شقاوة الأطفال أعطي الأمور أكبر من حجمها؟، لا أدري ولكنّي نهضت من مكاني وخرجت أنتظر دوري في ممر العيادة هروباً من الأجواء التي استفزتني للغاية". سخرية الأطفال تثير غضب الكبار أحياناً صفة وراثية وأرجعت "عائشة بركات" -مدربة تنمية بشرية وتطوير الذات- أسباب هذه الأمور التي يفعلها الكبار ويقع فيها الصغار إلى ثقافة المجتمع، من عادات وتقاليد، حيث تعتبر المحدد لتأثير التجاوزات، مؤكدةً على أنّ الفضول صفة وراثية، وأنّ تصرف الصغار نابع مما اعتادوه من آبائهم، حيث أنّ التربية ليست مهارة فطرية تنبثق مع الآباء أو الأمهات حين يرزقهم الله الذرية، وإنما هي مهارة مكتسبة تحتاج إلى علم، وثقافة، وبحث، موضحةً أنّ المكتبات تزدحم بكتب التربية وال"برستيج"، وال"إتيكيت"، التي توفر لكل قارئ المعلومات اللازمة النافعة في طريقة تعامله مع أبنائه بشتى المواقف، بدل التخبط والتصرف وفق المزاج أو التخمين، منوهةً بأنّ التربية أمرٌ صعب جداً يعتمد على الوعي والثقافة. الحرية اللازمة ونصحت "بركات" كل من يتعرض لمواقف مزعجة أن يتجنب الصمت، وفي الوقت نفسه أن يطالب بحقه بكل لباقة، حيث يعتبر الصبر والتغافل في مثل هذه الأمور مدعاة لتمادي المخطئين وتفاقم الأمر، كما أنّ إعطاءه أكبر من حجمه يوجب الكراهية والمقاطعة والمشاكل، مشددةً على ضرورة أن يبدأ كل شخص بتغيير نفسه، إلى جانب مسؤولية الأم والأب بتهذيب أبنائهم ومنحهم الحرية اللازمة داخل منازلهم وليس خارجها.