«الإذن بالبقاء» عبارة قانونية معروفة دوليًا تعني السماح لشخص وافد بالمكوث الى أجل غير مسمى في البلد الذي وصل إليه. وفي نطاقها العرفي هي أيضًا تأشيرة الموافقة القنصلية على هجرة ذلك الشخص من بلده الأم. إلا أن العبارة نفسها، مجردة من معناها الحرفي، سرعان ما تتوشى بأكثر من معنى حين تصبح عنوانًا لسيرة مهاجر هجرته بلاده ومنحته أستراليا إذنًا بالبقاء فيها بناء على خبراته العلمية فأصبح محاضرًا وأستاذًا في أبرز جامعاتها ونشر روايته الأولى «قل للمياه الجارية» سنة 2001 وأخيراً أصدرت منشورات جامعة كوينزلاند سيرته الذاتية وعنوانها «الإذن بالبقاء». عباس الزين مهندس مدني تخصص في شؤون البيئة وعلوم الكومبيوتر لكنه أيضًا روائي وباحث وكاتب قصة. ويشبه اللقاء بنصه مفاجأة من يدخل إلى بيت غريب ليجده حافلاً بحفنة أصدقاء طالما خيل إليه ان النسيان طواهم، فإذا بهم يشعلون ضوء ذاكرته وإذا بسنواته البائدة تنبلج أمامه في شريط نابض بالحياة. يكتب عباس الزين في أسلوب محكم السكب، متين اللغة، دقيق التعبير، مقتصد العبارة. ومع ذلك، لا تخلو سطوره من التكثيف والعمق. حكاية أسرته الجنوبية تشمل في تدفق تفاصيلها مراحل حارة من تاريخ لبنان والشرق الأوسط في النصف الأخير من القرن العشرين. كان عباس في صغره ويفاعه فتى ضعيف البنية يرتدي نظارتين طبيتين ويتابع دروسه في مدرسة العلمانيين الفرنسيين (ليسيه) وسط مجتمع شوفيني يرى في الضعف البدني مذلّة ومدخلاً إلى إذلال الآخر. ولولا متانة النسيج العائلي الرافد له نفسيًا ومعنويًا لما استطاع أن يرتفع إلى مستوى إسمه في انتفاضة باسلة ذات يوم. ترعرع عباس في عائلة متوسطة الحال يكافح معيلها لرفع مستواه المعيشي والثقافي باستمرار، همه الأساسي أن يمنح أولاده أفضل ما في البلد من علم ومعارف. ويمكن اعتبار تلك العائلة نموذجًا للسواد الأعظم مما شكل المجتمع اللبناني في السنوات الأولى للاستقلال. حينها كان التديّن جزءًا «ليبراليًا» منخرطًا في النسيج العام من حياة الأسرة اللبنانية بصرف النظر عن انتمائها الطائفي. ويعود ذلك إلى أن الطوائف كانت متداخلة ومتواصلة في تركيبتها المعيشية في شكل طبيعي، تلقائي وحيوي. ولم يكن الدين أو التدين بالضرورة موقفًا سياسيًا بقدر ما كان إرثاً إجتماعيًا يتضمن الآخر من دون الحاجة إلى التفتيش عنه إما لاسترداده أو لتغريبه كما هي الحال في هذه الأيام، بعدما أصاب الانفصام وجود الآخر في الذات الجمعية. هناك لفتات طريفة في تطرق عباس الزين إلى سياق الأحداث المتوازية بين ما يجري في البلاد وما يتغير في أحوال العباد. فكلما حدث انعطاف أساسي في الحياة السياسية غيّرت أمه تسريحة شعرها! عندما وقّعت الحكومة اللبنانية اتفاق القاهرة الشهير مع ياسر عرفات مانحةً الفصائل الفلسطينية حرية التصرف في المخيمات حول لبنان، استخفت أمه برأي مزينها جوزف واختارت لشعرها تسريحة ثورية فرنسية، وعندما جاء سليمان فرنجية رئيسًا للجمهورية خففت لون الحنة واعتراها شعور سوداوي حول المستقبل، وعندما مشى رائد فضاء اميركي على القمر تحولت تسريحتها إلى «شينيون»... ويكتب عباس الزين: «لا اعتقد أن التغيرات في تسريحة أمي كانت سببًا لتلك الأحداث لكن أظن أن القدر الذي صنع تلك الأحداث حدد أيضًا اختياراتها علمًا أنه لا أمل لي بإدراك الجامع بينهما». يعود الكاتب إلى طبيعة الترحال المتأصلة في سيرة أسرته. ترحال في الداخل وهجرات إلى الخارج خصوصًا إلى العراق مسقط رأس والده وجدّه. ويأتي وصفه للرحلة الخطرة التي قام بها إلى النجف وكربلاء شهادة مؤثرة على عمق تلك الحاجة الغامضة واللجوج في آن إلى اكتشاف الجذور وإلى محاولات البشر ربط الماضي بالحاضر أو العكس. وهناك حكاية الثقافة الغربية ومؤثراتها على تربيته وتطوّره العلمي ابتداءً من كتب القصص المرسومة حيث يكتشف الزين أبعاد الإنحياز العنصري ضد العرب والمسلمين حتى في حكايات الأطفال المفترض أنها بريئة. فلا «تانتان» ولا «أستيريكس» يحترمان قبائلنا ولا قبائل أفريقيا بل يخلطان بيننا وبينهم ويعاملوننا كأننا همج وقساة. حروب إسرائيل ومعاناة الجنوبيين وآثار النزوح الذي أصابهم يعالجها عباس الزين بغضب مكبوت يريده أن يظهر ويريده أيضًا أن يبدو حياديًا من طريق تدعيم نصه بالمعلومات والحقائق الموثقة وتجنبه البكائيات المعروفة في هذا السياق. في أيلول (سبتمبر) سنة 1986 سافر عباس إلى إنكلترا لمتابعة دراسته الجامعية والغريب في تجربته الأولى هناك أنه تعرف منذ اليوم الأول إلى مجموعة «لطيفة» من جهاز مخابرات التاج قرعوا بابه وفتشوا حقائبه «بسبب كل أولئك الإرهابيين الذين يأتون من بلادك» بحسب قولهم. أما أصل الحادثة المذكورة فيعود إلى أن عباس أضاع مفتاح حقيبته وطلب من جاره أي آلة حادة لخلع القفل فاشتبه جاره به واتصل بسكوتلانديارد. أما تجربته اللبنانية في العمل لدى وزارة البيئة فليست بالغرابة نفسها، كونها نموذجية في نطاق فساد الإدارة الذي دأب منذ سنوات طويلة على تنفير المواهب والإمكانات الصادقة وبالتالي تهجيرها إلى بلاد الاغتراب. في روايته الأولى تطرّق عباس الزين لحكاية جيل ما بعد الاستقلال الذي ما أن بزغ محملاً بأحلام المستقبل حتى دهمت أحلامه حرب أهلية مدمرة كان من نتائجها نزف هائل في الثروة البشرية اللبنانية. وفي سيرته الأخيرة تتبدى صورة اللبناني القادر بمعطياته الثقافية على التأقلم مع أي محيط كان في أي بلد من بلاد الأرض خصوصًا حيث يستطيع أن يوظف معارفه وأن ينمو وأن يجد مكانًا حرًا للتعبير عن إنسانيته. مقطع من السيرة لعل إحدى أجمل لحظات الأبوة في تجربتي حين يكشف واحد من أبنائي تطوراً مفاجئاً لم نلحظه من قبل على صعيد الفطنة، فإذا به يتفوه بتعليقات أو يخبر طرائف تشير إلى مستوى جديد في فهمه أو تعاطفه أو فضوله أو تحليله المنطقي. وأذكر أن علي وسامي كانا يركضان إلى الباب عند سماعهما كلمة «ملعب» في سياق حديث يدور بيني وبين أمهما. وقد كانا عندئذ في العمر نفسه أي قبل أن تعرف شفاههما الكلمات الأولى. ما يجعلنا ندرك أن أولادنا ينمون على دفعات صغيرة ينم بطئها عن تطور غير متوقع لشخصيتهم. من جهة أخرى، هناك عادة شفوية غريبة في لغتنا لمناداة الأبناء والبنات. فالأب والأم يناديان أولادهما أحيانًا قائلين:«بابا» أو «ماما» عوضًا عن «ابني» أو «ابنتي». ويلجأ الأهل إلى هذا النوع من المناداة تحببًا وتنازلاً عن السلطة الرعوية هادفين إلى إحداث تغيير في تصرفات أولادهم أو الكشف بلطف عن أمر قام به أحد الأولاد:«بابا، حبيبي، ضع هذه الشوكة جانبًا. قد تؤذي نفسك». أو «ماما، عزيزتي، هل أحضرت لي أقراص أسبيرين وأنت عائدة من المدرسة؟ الصداع يؤلمني». هكذا يصبح الأبوان أولادًا والأولاد أبوين في انعطافة لغوية مقتضبة تشير إلى أن الصغار ينذرون بسلطة أعلى من سلطة الكبار(...) وينطوي هذا التقليد على بعض الأمل بأن يأتي التغيير المنتظر تبادلاً للوظائف يؤمن استمرار الوشائج بعد أن يكبر الأولاد.