للمرة الثالثة أكتب عن عبدالوهاب المسيري وقد مرت ذكراه الرابعة.. عندما توفي رحمه الله 3/ 7/2008 ، وكان العنوان(توقف النبض وما ماتت البذرة) وكتبت عند ذكراه الثانية ، ذكراه الرابعة مرت هذا الشهر ، مرت وبطعم مختلف، لأن ما حدث مختلف عندما توقف قلب المسيري، تغير وجه مصر، بعده بعام.. كانت مغادرته الميدان ولم يشهد ما كافح من أجله ، ولا ما حبس دفاعا عنه ، ولا عندما رمي في الصحراء وهو مريض بمرافقة زوجته ، ليحاول العودة منهكا بلا دواء ولا ماء .. لعل السؤال لماذا حدث للمسيري ذلك، ولم يحدث لغيره من مفكرين وربما معارضين،وربما تظاهروا وحملوا مشاعل ، الحقيقة مشعل المسيري مشعل من نوع آخر مشعله يجلو الغمامة عن كثير مما يحدث في بلداننا العربية التي غدت شرق أوسط ليدخل ضمنها دول اخرى وكأنما المسمى أعد إسرائيل خصيصا وهذا ما تم .. لماذا كان الغضب قوياً على رجل بحجم وبعمر وبمرض د. المسيري؟ قد تكون الأسباب كثيرة ولكن قوتها تختلف ولعل أقواها هي دراساته عن الفكر الصهيوني وخاصة هي تصدر عن رجل فيلسوف وباحث وأكاديمي ، أصدر دراسات وبحوثا عديدة وكلها تمس الكيان الصهيوني ، وكان واجبا أن يُنحى جانبا .أو يضطهد .. وهذا ما كان .. من أشهر وأقوى كتبه ودراساته هي : موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية . عمل ضخم في ثمانية مجلدات هي عمل ضخم بمعنى الكلمة ، تناول فيها تاريخ اليهود وتاريخ توزيعهم حول العالم وتعدادهم .. وعلاقة اليهود بالمجتمعات التي يعيشون فيها .. كما تبين الموسوعة علاقة اليهود مع الحكام عبر التاريخ .. الجهد المبذول فيها جهد كبير وأخذ من الباحث وقتا وجهدا كبيرا ، لم يكن إلا محايدا ،تخلى خلاله عن اي تحيز حدث ضمن دراسات سابقة متداولة قبلا منه .. وضع تعاريف دقيقة . قدم صورة واضحة حول الجماعات الصهيونية وتكوينها وفكرها .. كما استبعد مصطلح الشعب اليهودي ، كون اليهود لا يشكلون وحدة عرقية كما هو واقع .. لقد وهب المكتبة العربية عددا كبيرا من المؤلفات القيمة ،كما ألف باللغة الانجليزية عددا جيدا من الكتب تخدم القضايا العربية وايضا بموضوعية ، هذا العلم الذي فقدناه كرّم في حياته من مؤسسات كثيرة عربية . في تاريخ حياته العملية عمل لمدة خمس سنوات في جامعة الملك سعود .لاشك ان تأثيره سيكون واضحا على تلاميذه .. إذا كنت قد كتبت عن فقدان جارودي في مقالي السابق ، فإنني متفائلة جدا اليوم بفكر جارودي مع فكر أستاذنا الكبير المسيري ، والتغير الذي سيحدث مع تفتح الذهن العربي لحقوقه ، وتفهم مشاكله ، ومعرفة قوة هذا الدين الذي هو أكبر من مجرد ممارسات ، وهو نيّر بذاته .. عودة للفقيد المسيري ، رجل ذو وجه سمح ، مصري صميم ، حاضر النكته .. وله في الايمان العميق رحلة طويلة قد تختلف كثيرا في بعض الأوجه عن الفيلسوف الفرنسي جارودي ، وقد يكون هناك خيط بينهما ، لقد مر جارودي بالديانة المسيحية بفرعيها بروتستانت ، وكاثوليك ، كما مر بتجربة مع الحزب الشيوعي حتى رسى إيمانه قويا على ضفة الإسلام حتى توفاه الله .. المسيري يقول عن إيمانه (إن الإيمان لم يولد في داخلي إلا من خلال رحلة طويلة وعميقة ، إنه إيمان يستند إلى رحلة عقلية طويلة ،لذا فإنه ايمان عقلي لم تدخل فيه عناصر روحية فهو يستند إلى عجز المقولات المادية عن تفسير الإنسان وإلى ضرورة اللجوء إلى مقولات فلسفية أكثر تركيبية). رحم الله المسيري ، وعوض أمتنا بمن يواصلون المهمة .. وسعادة ورقياً لمصر الغالية ..