تفشت حالات استباحة المال العام بين بعض الموظفين -لم يصل الأمر إلى حد تصنيفه بالظاهرة-، إلاّ أنّه موجود، والأدهى من ذلك أن هناك من يفاخر بالسرقة، وهذا لا يقتصر على كبار التنفيذيين بل حتى صغار الموظفين، فكلٍ يسرق على قدر استطاعته أو منصبه، ليبرز التساؤل الأهم ما الذي جعل هؤلاء يجاهرون؟، وماهي الدوافع الحقيقية التي أدت إلى أن يستحل البعض سرقة أموال الدولة؟. "الرياض" في هذا التحقيق تنمي وعي المجتمع بخطورة الاعتداء على المال العام نهباً (الاعتداء على المال عمداً دون أن يُترك منه شيء)، وسلباً (أخذ المال قهراً)، واختلاساً (الاحتيال في أخذ مال الآخرين)، وسرقة (أخد مال الغير المحرز بخفية)، والتبليغ عن كل من يثبت محاولته المساس والعبث بثروات الوطن ومقدراته. معايير الشفافية بدايةً ذكرت "سميرة بيطار" -سيدة أعمال- أنّ السرقة آفة من الآفات التي تعرِّض المجتمعات للخطر، والغالبية العظمى تعرف أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم متى رفع إليه أمر السارق أقام عليه الحد ولم يجامل في ذلك أحداً مهما علت منزلته أو شرف نسبه، حتى قال: "لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، وهذا الحد الشرعي حين يقام على من يستحقه يؤدي إلى شيوع الأمن وزجر ضعاف النفوس، لافتةً إلى أنّ الأدلة كثيرة في جانب حد السرقة حتى يأمن الناس على أموالهم وأعراضهم، والمبادئ التي ينتهجها الغرب حالياً فيما يتعلق بمعايير الشفافية والمحاسبة هي موجودة في ديننا ولكننا تخلينا عنها أو غفلنا وابتعدنا عنها، وبالتالي هذا الداء علاجه الوحيد هو تطبيق العقاب على كل من يدان وبمعيار واحدد. أدوات الرقابة وبيّنت "بيطار" أنّ عدم تفعيل أداوات الرقابة والمحاسبة في السابق هو ما خلق بيئة خصبة لضعفاء النفوس، وشجع الكثيرين أن يمضوا في طريق السرقة، خاصةً وهم يرون أمامهم بعض مسؤوليهم يختلسون مبالغ كبيرة، ومع مرور الزمن أصبحوا يتفاخرون بفعلهم ويعدونه من الذكاء والحصافة، وتناسوا كل القيم الدينية والأخلاقية في هذا الشأن، فالشرع حرَّم الاعتداء على الأنفس والأعراض والأموال، مشيرةً إلى أنّ ما تظهره أرقام حساب إبراء الذمة دليل على أنّ هناك الكثير ممن أرادوا التوبة، وبالتأكيد فإن من لم يرجف له جفن أكثر بكثير ممن استحى وأعاد الأموال التي ليست من حقه. التشهير بالسارق وأضافت "بيطار": "نُؤمّل كثيراً على هيئة مكافحة الفساد أن تؤدي دوراً في هذا المجال، وأن تنسق بين الجهات الرقابية الأخرى حتى يتغير مفهوم أنّ سرقة المال العام حلال، ولن يتأتى لها هذا إن لم يكن هناك تشهير بالكبار قبل الصغار، وإظهار أنّ الحساب يطال الكل دون تميز، وهو ما يؤكّد عليه خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- دائما في عبارته المشهورة (كائناً من كان)، وهذه الرؤية للملك عبدالله نتمنى أن يسير عليها الكل، خاصةً الجهات الرقابية؛ حتى نجد طريقاً لنا نحو التقدم الذي لن يأتي وبيننا من يفاخر بسرقته ولا يجد من يردعه، فكيف لموظف في وظيفة صغيرة -مراقب مثلاً- أن يفاخر بأنّه يأخذ من الجهات التي يفترض أنّه يراقب التزامها ببعض الاشتراطات ولا يجد من يوقفه عند حده؟، لأنّ هذه الجهات مستفيدة من سكوته وهو مستفيد مما يأخذه منهم والمتضرر هو المواطن في الأخير. صلاحيات محدودة ولفت "عصام مصطفى خليفة" -عضو جمعية الاقتصاد السعودي- إلى أنّ من أهم الأسباب التي تؤدي الى الفساد الإداري والأخلاقي عدم تطبيق نظام المساءلة والشفافية بشكل دقيق في جميع الأجهزة المعنية، وضعف الوازع الديني والأخلاقي لدى بعض المسؤولين والمقاولين، ومحدودية الصلاحيات الممنوحة لأجهزة الرقابة الداخلية في الوزارات والمصالح الحكومية والمؤسسات العامة، وبالتالي ضعف فعاليتها، إلى جانب تغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، مضيفاً: "لعل من أهم المعوقات التي تحول دون اكتشاف حالات الفساد الإداري في الأجهزة هي تمتع المفسدين وضعاف النفوس بالذكاء والتمرس، ولعلمهم بأنّه ليس هناك رقيب عليهم، مستغلين غياب الدور الرقابي الملموس لدى أجهزة الرقابة، نتيجة ضعف إمكانياتها المادية والبشرية وعدم قدرتها على تطبيق الأنظمة وتحديد المسؤولية بشكل دقيق، ومن الأمثلة الحية كارثة سيول جدة التي كشفت عن سلبيات عديدة ومآسٍ كثيرة، وأزالت الستار عن كثير من الديكورات الهشة والمساحيق البرّاقة والسلبيات التي كانت تختفي وراءها بعض الأجهزة الحكومية وشركات المقاولات، وتسببت في خسائر اقتصادية كبيرة جداً تجاوزت مليارات الريالات توزعت بين إصلاح وترميم البيوت وتلفيات الأثاث، وتضرر الممتلكات الحكومية والخاصة من مدارس ومحلات تجارية ومستودعات وطرق وسيارات، إضافة إلى ما أحدثته الكارثة من عشرات الوفيات وآلاف المصابين والحالات النفسية السيئة التي أصابت الأهالي، والحمد لله جاءت القرارات السريعة لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز -حفظه الله- لتخفيف معاناة المتضررين جراء كارثة السيول وتوجيهاته الخاصة بمواجهة تداعيات هذه الكارثة وما أسفرت عنه من خسائر في الأرواح والممتلكات،ولا شك أنّ كل من كان لديه يد مباشرة أو غير مباشرة من المسؤولين في الأجهزة الحكومية والخاصة شريك في تحمل المسؤولية، ومن المؤكد أنّ هناك فسادا إداريا في بعض الأجهزة الحكومية والخاصة المعنية أدت إلى هذه الكارثة، وكل ما نتمناه التشهير بالمتورطين حتى يكونوا عبرة وعظة لغيرهم، وأن يعي الكل أنّ هناك متابعة وحسابا لكل من يتعدى على المال العام أو الخاص حتى وإن طال الزمن".