حين تعمل في المجال الطبي تكون على الجانب الآخر من طاولة التشخيص والعلاج، فأنت تستخدم عقلك وتستحضر كل ما تملكه من معلومات لوصف الحالة للطبيب الاستشاري الذي انضممت لفريقه مزهوا ببدئك برنامجك التدريبي مع هذا الطبيب المشهور، وحين تكون هذا البروفيسور فإنك قد تكون مشغولا ببعض سياسات القسم ونقص الموارد وغيرها، أين كان موقعك في سلسلة الكادر الصحي أنت تؤدي عملك، تأتي كل يوم مشغولا بمهمات يومك، متعباً قليلا، متذمرا من آخر قرار أصدره رئيسك أو آخر ايميل وصل من زميل ثقيل الظل تراه مثلا حياً للفشل الانساني ونجاح الواسطة. قد- أقول قد- لا تلتفت لمن هم على الجانب المقابل، قد لا تنظر في عينيْ مريض متألم متعب مشغول وقف ينتظر دوره كي يصرف الدواء من الصيدلية، قد لا تسمع حوارا بسيطا بين تلك السيدة وجارتها في قاعة الانتظار عن رحلة السفر الطويلة من مدينتهم! الصغيرة بحثا عن العلاج، قد لا تأخذ وقتا لتأمل ذاك الأب القلق الذي يمسك دمعته بانتظار خروج طفله الصغير من غرفة العمليات، قد لا تنتبه لتلك التي خرجت من جلسة العلاج الإشعاعي وهي مذبذبة بين الأعراض الجانبية والخوف من القادم، وقد يأتي يوم وتعيش حالة القلق الشبيهة، ونفس حالة البحث عن إجابة مطمئنة أو وجه ينظر إليك على أنك إنسان ولست مجرد حالة ضمن الحالات، وهذا الوجه وهذا الإحساس الانساني الخاص المتفرد هو ما يجعل أحدهم متميزاً في عمله عن الآخر. قد تكون ذا شهرة عالمية تتهافت عليك المراكز الطبية طلبا لرضائك، قد تكون من جماعة "أول من" التي ولى زمنها ولم تعد مناسبة إلا للاستهلاك المحلي، لكنك تفتقد ذلك الجانب الإنساني الذي يجعلك تتفرس في الوجوه، تعرف أن هذا المريض القلق أمامك، لا ينتظر منك أن تتفوه باسم مرضه النادر بلغة إنجليزية ذات لكنة أمريكية أو بريطانية مصطنعة، ولا ينتظر أن تتجاهله وتتحدث بغير العربية مع فريقك المساند، بل يريد منك أن تراه ككائن ثلاثي الأبعاد وليس أعراضاً جمعها فريقك المساند في ملف تحمله معك، أن تتحدث معه ككائن له الحق في أن يعرف التفاصيل المتعلقة بحالته او حالة عزيز عليه يراه أمامه يتألم وهو يحمل كماً من الأسئلة. أول ما يحتاج أن يتعلمه كل شخص يقدم هذه الخدمة الصحية هي أدوات التعامل الإنساني وطريقة التواصل مع المريض وأهله بالأسلوب الذي يفهمونه، بعدها يمكنه أن يحفظ كل كتب التشريح والتشخيص وكل قواميس الأعراض والأمراض الطبية! وهذا ما يميز البعض عن الآخر..