الحمدلله وحده والصلاة و السلام على من لانبي بعد وبعد: فثمة قيم ومنطلقات ترتكز عليها الشخصيات المؤثرة في واقعها ومجتمعها مما يجعلها أكثر تفاعلاً و حراكاً، وفق مبدأ الاعتزاز بالثوابت والاستفادة من الوسائل المتغيرة ؛لتشكيل رأي أو رؤيا في الظروف والأحوال التي تطرأ على الواقع سواء في الجوانب التنظيمية أو الفكرية على الصعيد الداخلي أو الخارجي وفي الساحة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية و غيرها. وهذا المسار يجسد مفهوم الهوية الراسخة في نفوس حامليها، والتي تهدي رؤيتهم إلى مختلف القضايا، وتعطيهم الوعي الصحيح والرؤية الواضحة والزاد الحقيقي في التعامل مع الأحداث من حولهم. فمن الشخصيات التي ارتسم في لفظها و فعلها قيمة الهوية صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز - رحمه الله رحمة و اسعة - ، فمن يتابع حديثه في المحافل و المناسبات و يتداول معه الرأي حيال أي موضوع فإنه يدرك مركزية الهوية الإسلامية التي كان يتحرك بها رحمه الله، وقد ترجم رحمه الله تلك الهوية من خلال ما يتبناه من مشاريع و آراء يحقق بها الرعاية والصيانة لهذه الهوية والوحدة تحت مظلتها. وقد عرفته رحمه الله و عرفه غيري فهو – رحمه الله – الرجل المتميز في كفاءته ومسؤولياته ومواطنته الجامع بين القوة والشفقة . رجل الأمن والحكم والمسؤولية في العمل والعمال والإعلام والحج . سياسته وحرصه لم يكن باستعراض القوة وحدها ولكن بحصافة العقل وثبات الجنان وفق ثوابت الايمان وقواعد الحق ونبل الأخلاق . له نظرته الشمولية في الأمن الوطني بكل مفاهيمه وابعاده الفكرية والسياسية والاجتماعية والتربوية والاقتصادية والإعلامية . إن هذه النظرة بل النظرية تمثل مجمع السلطات الأمنية – إن صح التعبير - . إن الأزمات والتقلبات والتغيرات التي احاطت بالمنطقة طوال العقود الأربعة الماضية كان فيها نايف مسؤولاً مسؤولية مباشرة في بلده أمام قيادته ومواطنيه . لقد كان مسؤولاً عن إدارة تلك الأزمات والتغيرات وآثارها فكان المدير المحنك – بفضل الله – والمنتصر الظافر – بتوفيق الله – منذ قضية جهيمان وحروب الأفغان ومعارك إيران والعراق وغزو الكويت وظهور القاعدة وأحداث سبتمبر وتغيرات ما سمي بالربيع العربي لقد كانت بلاءات ومحنا ولكنه – رحمه الله بتوفيق الله – ثم بدعم قيادته وشعبه كان صامدا في كل الجبهات الفكرية والأمنية والسياسية والاجتماعية والإعلامية ، لقد اقنع المواطنين بأنه يدافع عن دينه وبلده وأهله وغرس فيهم الأمن مسؤولية الجميع. ولقد اتسم – رحمه الله – في سياسته وإدارته بالسعي لإيجاد المناعة للمجتمع السعودي مما يضعف اجتماعه ويفرق كلمته فقد جمع بين منهجي الوقاية والعلاج . وقد كان للعلم والعلماء وطلاب العلم حضورهم في سياسة الأمير نايف - رحمه الله – وادارته من خلال دعوتهم وتأكيد أهمية مشاركتهم في تحمل المسؤولية نحو المجتمع وصيانته والتواصل مع رجالات الدولة للقيام بما أوجب الله عليهم ، كما كان كثيراً ما يحملهم ويذكرهم بأمانة البيان والدعوة إلى دين الله وفق منهج السلف الصالح. ولاشك أن هذا التواصل بين العلماء و طلاب العلم يحقق جملة من المنافع منها: تصور الواقع و طبيعة المتغيرات التي تكون نضجاً يصنعه السياسي والشرعي فتكون المواقف والتحرك نحو الواقع، جمع بين تصور المسائل والدلائل فيصيب الجميع الحق بإذن الله، ومنها تقارب القلوب واجتماع الكلمة تحت مبادئ الشريعة ومعالمها وتلمس المصالح الشرعية و بثها في الناس. تلك التكاملية التي كان يغذيها الأمير نايف - رحمه الله - بتواصله مع العلماء والتي هي منهج هذه الدولة المباركة لهي من أعظم المعززات لوحدة الكلمة والصف. فيتحقق بذلك التعاون على البر والتقوى، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الدين النصيحة "، قيل لمن يا رسول الله؟ قال: " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) أخرجه مسلم في صحيحه وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) وشبك بين أصابعه وقوله - صلى الله عليه وسلم – (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحيهما فهذه الأحاديث وما جاء في معناها تدل دلالة ظاهرة على لزوم التضامن والتراحم والتعاطف والتعاون على كل خير وفي تشبيههم بالبناء الواحد والجسد الواحد ما يدل على أنهم بتضامنهم وتعاونهم وتراحمهم تجتمع كلمتهم وينتظم صفهم ويسلمون من شر عدوهم. أما لغته في الخطب والمحافل واللقاءات العامة والخاصة والمناسبات الاجتماعية في البيت السعودي فكانت متميزة في هدوئها وحكمتها وأناتها وانتقاء عباراتها وبعدها عن التشنج يطرح افكاره ورؤاه بكثير من الهدوء والموضوعية مع ما يتميز به من الثراء المعرفي وبخاصة في التاريخ العام وتاريخ الجزيرة بصفة خاصة وما يتعلق بأهلها وديارها ورجالاتها . ومما يستوقف الناظر في مسيرته وإدارته – رحمه الله – فلسفة المناصحة عند نايف . انها مفردة شرعية جميلة أدخلها في قاموس التعامل بين الدوله ومن تزل به القدم من المواطنين . فلسفة ومقصد يؤكد على فلسفة الإصلاح والاستصلاح وابتغاء المواطنة الصالحة . فمن أوقف في قضية امنية لا ينظر الى وقوعه فيها بانها جرم ملازم وعقوبة ماحقة بل إنه مواطن قد يكون ضل السبيل بسبب من نفسه او رفاقه او قراءاته او اتصالاته فكان لا بد من النظر في كل الجوانب والحيثيات التي يمكن من خلالها العلاج والاستصلاح بل ان من مقاصد المناصحة وأهدافها استمالته واشعاره بمواطنته والتأني في اتخاذ مايلزم اتخاذه حسب استيفاء كل انواع المعالجات وهذه هي المناصحة بكل ابعادها الدينية والفكرية والاجتماعية والنفسية . فلسفة تقوم على مقابلة الفكر بالفكر ومناصحة تفتح الأبواب مشرعة أما التائبين ، ان غرضها كسب العقول والقلوب قبل ايقاف الأبدان والأشخاص في حوارات مفتوحة لرد الشاردين وهداية الضالين . لقد استوقفت هذه الفلسفة دولاً كبرى ودولاً صغيرة ودولاً قريبة وأخرى بعيدة ورسخت القناعة لدى كل متابع ان مواجهة التطرف هي مواجهة فكرية قبل ان تكون أمنية . ونايف هو الذي يقول : ( ان الأمن ليس مؤسسة للعقاب والإصلاح فقط ولكنه شعور بالأمان – رحمه الله – من رجل كافح الإرهاب كما كافح التهريب. ومما يستوقف الناظر في سيرة هذا الرجل والسابر لمسيرته – رحمه الله – هذه الكلمات الذهبية في نظرته لأعمال الإغاثة وجوانبها الإنسانية فهو الذي يقول : ( ان الأعمال الاغاثية ستستمر وهذه عقلانية اخلاقية فالربط بين اعمال الخير والإرهاب يدل على فقدان العقل اذ ليس من المعقول بأي مقياس ان يحرم المحتاجون الخير بسبب استغلال حزبي او سياسي او ارهابي لأعمال الخير لأن هذه قاعدة مجنونة لو طبقت لجفت منابع الخير في الارض حيث ان في كل مجال هناك من يستغل ماهو حسن فيما هو قبيح ) . وان كان للكاتب ما يوصي به فهو الوصية بدراسة منهجية نايف ونظريته في مفهوم الأمن الشامل في دراسات مستفيضة تجسد مسيرة ما يزيد على ثلاثين عاما قضاها – رحمه الله – بين ملفات الأمن وتقلبات الزمن ومتغيرات الظروف وما أحاط بالبلاد والمنطقة من فتن ومحن وكذلك مواقفه مما يثار ويطرح في الساحة الوطنية والإقليمية مما يتعلق بهوية البلاد والتزامها بشرع الله وقضايا المرأة والحسبة ودورها والإعلام وآثاره وأمن الحجيج وحفظ السنة النبوية وغيرها من المسائل الكبار مما له فيها – رحمه الله – رؤى واضحة ومواقف مشهورة . وأحسب ان من أجدر وأولى من يتولى ذلك الجامعة التي تحمل اسمه – رحمه الله – جامعة الأمير نايف للعلوم الأمنية . وبعد فلئن رحل هذا الرجل القامة الشامخة – رحمه الله واسكنه فسيح جنته وعوض البلاد خيرا - لئن رحل فان الرسالة والمهمة باقية ومتماسكة والرجال متوافرون ولله الحمد وقيادتنا بتوفيق الله بحكمتها وحسن سياستها لا يؤثر عليها مثل هذا الحدث العظيم فهي مؤسسة على الايمان بالله ثم على الكثير من التضحيات مع الحكمة والحزم والسلاسة في شغل المناصب والمواقع وها هو خادم الحرمين الشريفين – حفظه الله – يختار صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز لولاية العهد وهو من هو في قيادته وخبرته وإخلاصه ثم يولي أخاه صاحب السمو الملكي الأمير أحمد بن عبدالعزيز قيادة وزارة الداخلية وهو ابن الوزارة وتلميذ نايف بن عبدالعزيز ورجل الخبرة والحزم اعانهم الله وسددهم وحفظ الله على بلادنا ايمانها وأمنها وغفر لنايف بن عبدالعزيز واسكنه فسيح جناته جزاء ما قدم لدينه وبلاده وأمته وعوضنا خيرا وأصلح عقبه وذريته . وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. *المستشار بالديوان الملكي