لا يعرف قدر العالم إلا من تقاطع معه في علميته ولو في القليل . أما الجاهل فلا يعي إلا اجترار التعصب وإنكار الحقائق لأنها لم تأتِ متوافقة مع الأهواء والرغبات . لذلك نجد أن أولئك العلماء والمفكرين قد عرفوا تميزه (= الشيخ : عدنان) إذ يدخل مجالهم الخاص لم يكن الخطاب المستنير الذي وجدته في خطبة الشيخ : عدنان إبراهيم عام 2003م استثنائيا فحسب ، بل كان - من حيث جِدّته ومُغايرته - استفزازيا ، وخاصة لأولئك الراقدين - فكريا- على ما وجدوا عليه الآباء والأجداد . هذا ما لمسته في تلك الأشرطة التي حملتها معي آنذاك مغتبطا بلذة العبور إلى العتبات الأولى لاكتشاف يجمع بين الخوف والأمل : الخوف من أن تكون تلك الخطبة نتيجة جُهد جهيد ، إعداد استثنائي ، بحيث لن يستطيع صاحبه تكرار تألقه حتى لو أراد ، والأمل في تعزيز وتأكيد نتائج القراءة الأولى المتفرسة لخطيب يفرض تفرده على كل معايير التقييم . أول ما سمعته من تلك الأشرطة كان درسا من ثلاثة أجزاء في ثلاث ساعات بعنوان (الأدلة على وجود الله) . وهو درس علمي إيماني ، يتصدى فيه هذا العالِم المُحقّق للتصورات الإلحادية المادية ، لا بمقولات نظرية احتمالية ، وإنما بأحدث ما توصل إليه العلم الحديث من كشوف ؛ مع ربط ذلك بآخر تطورات المذاهب الفلسفية العقلانية التي اتخذت من تفكيك العقل سبيلا إلى العقل ، أي إلى عقل أعقل ؛ إن صح التعبير ! . أقصد أن ذلك الطرح كان أكثر من استعراض علمي لمكتشفات العلم ، وأكثر من مساءلة عقلية للعقل ، بغية الوصول إلى حقيقة وجود الله . أي أنه كان إبداعاً في خلق رؤية شمولية (علمية + عقلية) من شأنها أن تؤكد حقيقة وجود الله ، الخالق المدبّر لهذا الكون ؛ حتى لأشد الملحدين تشبّعاً بإرادة الإلحاد . طبعا ، لا تتصور أنك ستمع منه كلاما تقليديا من قبيل الاستدلال بتسلسل العلل ، أي على نحو ما يطرحه التقليديون في هُرائهم المُخجل والمكرور ، من أن البعرة تدل على البعير ، والأثر على المسير...إلخ هذا الهراء المسجوع . ما ستسمعه شيء مختلف تماما عن كل هذه الاستدلالات الساذجة التي يطرحها أولئك المتخصصون في جامعاتنا التقليدية ، تلك الجامعات التي أتقنت - من حيث لا تدري - فن صناعة الغباء والجهل ، وأخذت على نفسها مهمة نشره وشرعنته في عالمنا الإسلامي المنكوب بكل صور التخلف والشقاء . عندما يتناول الشيخ العلاّمة المُحقّق : عدنان إبراهيم ، أية مسألة من المسائل التقليدية المُعتاد طرحها في سياق الإشكاليات المعاصرة للفكر الإسلامي ، يتناولها بعلمية غير مسبوقة ، مستعينا بموسوعيته وشمولية ثقافته التي أبهرت كثيرا من كبار العلماء والمفكرين ، بحيث يأتي الطرح مختلفا ، بل وفي دائرة اللامتوقع على أكثر من صعيد . إن موسوعيته - تلك الموسوعية المنفتحة على أحدث ما أنتجه العقل الإنساني في كل فروع المعرفة - هي التي تمنحه القدرة على رؤية الأشياء من منظار شمولي ، وتقوده إلى فضاءات تقصر عنها خيالات (فضلا عن عقول) كبار سدنة التقليد والجمود . هذه الموسوعية ليست من دعاوى تلامذته ومُريديه ، بل هي حقيقة شهد له بها كبار المتخصصين . فالشيخ : البوطي ، ذو الثمانين عاما ، يؤكد أنه لم يرَ في حياته (ثمانون عاما) مثله ، وأنه العالم الموسوعي الذي كان يظن أنه غير موجود في الواقع كحقيقة ، رغم تقرير وجوده - كاحتمال - على المستوى النظري ؛ مع أن الشيخ عدنان لا يزال - قياسا بغيره من كبار المُتبحرين في العلوم - صغيرا ، إذ لا يزال في السابعة والأربعين . الشهادات له لم تأتِ من شيخ تقليدي كالبوطي فقط . بل شهد له مفكر بحجم المفكر الكبير الموسوعي : عبدالوهاب المسيري (وهو من هو في موسوعيته) ، إذ يُؤكّد - بعد أن استمع إلى محاضرة علمية وفلسفية عن مشكلة الزمان - أن الشيخ : عدنان ، أفضل من يكتب في أزمة العلوم الطبيعية . يقول المسيري هذا ، مع أن المحاضرة كانت ارتجالا من غير إعداد . الإشادات والشهادات له بالعلمية كثيرة ، ويصعب سرد تفاصيلها هنا . وهي شهادات وإشادات من مفكرين كبار ، ومن علماء متخصصين عرفوا تمكنه من خلال كلامه في مجال تخصصهم الدقيق ، إذ كان يتكلم كمفكر هَاوٍ بما يتجاوزهم كعلماء مُحترفين !. وهذا ما جعلهم يعرفون قدره ، ويعترفون بعلميته ، ويشهدون بموسوعيته ، وخاصة من قِبَل أولئك الذين تطهّرت قلوبهم من الحسد الحارق ، ومن التعصب الخانق ، فقالوا ما تمليه عليهم ضمائرهم ، إذ أقاموا الشهادة لله . لا يعرف قدر العالم إلا من تقاطع معه في علميته ولو في القليل . أما الجاهل فلا يعي إلا اجترار التعصب وإنكار الحقائق لأنها لم تأتِ متوافقة مع الأهواء والرغبات . لذلك نجد أن أولئك العلماء والمفكرين قد عرفوا تميزه (= الشيخ : عدنان) إذ يدخل مجالهم الخاص . كان عندما يتكلم في علم الاجتماع - مثلا - ، أو في علم النفس ، أو في الفلسفة بأنواعها ، أو في علم الأديان المقارن ، فضلا عن مجالاته التخصصية كعالم دين إسلامي متخصص ، يُبدع بدقائق ، وإلماحات ، واعتراضات إشكالية لم يتطرق لها حتى كبار المتخصصين في هذا العلم أو ذاك . لهذا ، كانت له رؤى منفتحة أشد ما يكون الانفتاح في مسائل وإشكاليات الفكر الإسلامي المعاصر . أي في المسائل التي تشكل أزمة فكر وأزمة واقع في العالم الإسلامي ، وذلك منذ اكتشف هذا العالم حقيقة تخلفه الفظيع . فطرْحه - مثلا - لمسألة الحرية تجده في غاية الانفتاح ، إذ الحرية لها الأولوية القصوى في خطابه الجديد والمتجدد على الدوام . مركزية الحرية في خطابه تتضح في تناوله لشتى القضايا . لكنها تتضح - أشد ما تتضح - في تناوله لحد الرّدة ، وما يتبعه من إشكاليات نظريه وتطبيقية ، بل وتاريخية ، أحرجت كثيرا من المعنيين بمسألة المعاصرة ولا تزال . أما مسألة المرأة الشائكة ، المسألة التي لا تزال بؤرة صراع في مجتمعات التخلف ، فقد تناولها الشيخ : عدنان في أكثر من خطبة ، وفي غير ما محاضرة من محاضراته العامة ، تناولها بإلحاح ، ولكن على فترات متقطعة ، بحيث يكون من الأفضل لو قام المعنيون بفكره بتفريغها في كتاب . محاضراته عن المرأة كثيرة ، ولكن لعل أروعها هي تلك المحاضرة التي ألقاها في فيينا ، وحضرها كثير من المفكرين الغربيين (بالمئات) من جميع أنحاء القارة الأوروبية ، بل ومن غيرها ، وكان كل ما طرحه في تلك المحاضرة الرائعة موضوع تساؤل ونقاش واستشكال . وكم كنت سعيدا وأنا أراه يعكس - بعلمية عالية وصريحة وغير متخاذلة ؛ لا أمام ركام الموروث الضاغط من الداخل ، ولا أمام المنجز الحضاري للآخر الضاغط من الخارج - ذلك الوجه المشرق للإسلام ، الوجه الإنساني الجميل ، الوجه المُبهر والرائع أبدا ، الوجه الذي لا يزال سدنة التقليد البؤساء ، وأتباعهم البلهاء ، يُمارسون - بغباء فريد ! - تشويهه بأقسى درجات التشويه ، بل ويتبرعون في هذا المجال بتقديم ما يعجز عنه ألد الخصماء وأشرس الأعداء . وما يزيد خطاب الرجل جمالا وإبهارا أنه عدو أصيل للغلو والتكفير ، ولكل ماارتبط بخطاب التكفير من منظومات ومدارس فكرية مغالية . فالشيخ : عدنان ، يتحدث عن المسلمين - بكل فِرَقهم منذ فجر التاريخ ، وإلى اليوم - بطرح مُتسامح مُتفهّم يعجز عنه كثير من ذوي العمائم والمباخر الذي مردوا على التكفير صراحة أو في الخفاء ، والذين يشتغلون فكرا وممارسة على مقدمات التكفير من تفسيق وتبديع وتضليل . ولهذا ليس غريباً أنهم ناصبوه العداء ، وأثاروا عليه جماهير الغوغاء ؛ لأنه - بتعريته العلمية لمقولاتهم من جذورها - يهدم مجدهم الموهوم الذي قام - ويقوم - على تفخيخ العقول بمقولات التكفير ، تلك المقولات التي تبدأ بشرعنة الكراهية ، وتنتهي بالقتل والتفجير. إذن ، أنت أمام طرح عصراني أشد ما تكون المعاصرة ، و - في الوقت نفسه - إسلامي أشد ما تكون الإسلامية ؛ لأن الرجل وهو العالم الموسوعي المنفتح على شتى المعارف والعلوم ، بل وعلى شتى الفضاءات الحضارية المعاشة ، هو عالم رباّني ، زاهد ومُتألهّ ، بذل كل وقته ، وكل مواهبه ، وكل طاقته ، لتقديم طرح إسلامي ينتشل المسلمين من واقعهم البائس ، وينتصر للإسلام من أعدائه الحقيقيين الذين طالما غفلنا عنهم : غلاة التطرف والتكفير . أنت أمام طرح يتناول المسائل الإشكالية : مسألة العلاقة مع الآخر ، ومسألة المرأة ، ومسألة الجهاد ، ومسألة حد الردة ، ومسألة حرية التعبير ، وحرية الاعتقاد ، ومسألة التطرف ...إلخ تلك المسائل ، بطرح عقلاني ينتصر للإنسان ، إلى درجة سمحت لنفسي بأن أطلق عليه مُسمى : الإسلام الليبرالي ؛ بوصفه (= خطاب الشيخ : عدنان) إسهاماً لا يستهان به في مسيرة الأخذ بالفكر الإسلامي من تخبطات التقليد الارتجاعية إلى تخوم المعاصرة (والعصر الآن هو الغرب ، والغرب ليبرالي) ؛ حتى وإن كان للشيخ موقف سلبي من الليبرالية على وجه العموم . قبل تسع سنوات ، عندما استمعت إلى محاضرته عن (الصمت الاجتماعي) وأنا أقطع الطريق السريع من الرياض إلى مقر سكني في القصيم ، رثيت للتقليدية وللتقليديين ؛ بقدرما غضبت على التقليدية والتقليديين . تساءلت في تلك اللحظات عن ماذا سيكون عليه الفكر الديني في العالم الإسلامي لو أن كل مدينة من مدنه الشاحبة فكريا أسعدها الحظ ولو بثلاثة أو أربعة خطباء يطرحون مثل هذا الطرح المتجاوز لعبث فقهاء الاحتياط الذين كانوا ولا يزالون - وللأسف - يأسرون قلوب وعقول جماهير المغفلين . زرت أكثر من عشرين دولة إسلامية ، وأكثر من عشر دول غير إسلامية (-وفق التصنيف التقليدي-) ، ومكثت في بعضها عدة شهور . وهذا جعلني أحضر، وأستمع إلى عشرات الخطباء المختلفين في مصادر التثقيف وفي طبيعة الانتماءات الفكرية والمذهبية . لكنني لم أجد من يستحق أن تَعقد عليه ولو بعضا من الأمل ، إلا ما كان من الشيخ : عدنان . حتى مصر ، بلد الأزهر ، بلد عشرات الألوف من العمائم المتخصصة في شتى علوم الدين ، وعلى امتداد زياراتي المتتالية لها لأكثر من خمسة عشر عاما (ربما يبلغ عدد الجُمع التي حضرتني في مصر أكثر من مئة وثلاثين جمعة) ، لم أجد غير خطاب التقليد ، أو ما هو قريب من خطاب التقليد ، بحيث تملكني العجب ، وأخذت أتساءل : كيف عقمت آلاف المعاهد وعشرات الكليات الشرعية أن تنجب ولو واحدا كهذا الشاب الفلسطيني المهاجر إلى النمسا ، هذا الشاب الذي صنع نفسه بنفسه ، وكان في هِمّته وهَمّه واهتماماته كأنما يحفر في صخر المستحيل . يقول لي أحد الأصدقاء ممن أدمن متابعة خطب الشيخ : عدنان ، من خلال اليوتيوب : عندما أستمع إلى خطب الشيخ ، وغالبا ما أسمعها يومي الإجازة : الخميس والجمعة ، أحس بأنني أعيش على قمة هرم المعاصرة ، ولكنني ما أن أذهب لصلاة الجمعة في أي مسجد من مساجد مدينتي ، وأستمع للخطيب ؛ حتى أحس بأنني رجعت عشرة قرون إلى الوراء ، حيث الخطاب في لغته ومضامينه ، لا ينتمي إلى عصرنا بحال ؛ إلا من حيث هو حضور التقابل والتضاد . كنت أقول لنفسي قبل سنوات : مثل هذا الخطاب الجديد لابد أن يكون له حضور بين الشباب . اليوم ، بدأ خطاب الشيخ : عدنان يحضر بقوة في أوساط المثقفين من الشباب . قبل تسع سنوات ، كنت أتساءل : متى يستطيع خطاب كهذا أن يتجاوز مجاله الحيوي في الفضاء الأوروبي إلى العالم العربي والإسلامي ؟ ؛ لأن خطاباً كهذا هو - وحده - القادر على اكتساح هذا الغثاء التقليدي الذي لا يصلح حتى لأمم الكهوف والأدغال . ما كنت أراه نقصا في خطاب الشيخ آنذاك ، بدأ في استمكاله في السنوات الأخيرة . كنت أرى أن طرحه الإسلامي المستنير لن يكتسب الشرعية التي تكفل له الحد الأدنى من الفاعلية ؛ دون أن يتماس بشكل حاد وإشكالي وتفصيلي مع إشكاليات التاريخ ، أي مع الأرضية الموبوءة التي نبتت فيها الخلافات العميقة بين الطوائف والمذاهب ، وصنعت كل هذا الركام التقليدي . كنت أرى بأنه يتجنب الخوض بشكل تفصيلي في هذا المجال ؛ لأنه سيكلفه تكاليف كثيرة ، تكاليف باهظة على أكثر من مستوى . لكنه اليوم بدأ يحفر في الأعماق التاريخية ، بدأ يفحص ويتساءل ، بل ويقرر ما ثبت لديه علمياً ؛ حتى ولو تم اتهامه بأشنع التهم . بدأ يؤسس للتنوير من الأعماق ، من أعمق الأعماق ، بدأ رحلة تحطيم الأصنام ؛ من أجل أن نخرج بفكرنا المأزوم من أتون جاهلية جهلاء ، ونبدأ عصرا جديدا وحقيقيا للإسلام.