سنتحدث اليوم عن تاريخ مرض السيلياك وظهوره في البشرية ولكن قبل ذلك سنعطي القارئ نبذة مختصرة عن المرض. مرض السيلياك مرض مناعي، يعرف تجاوزاً بحساسية القمح، ونقول تجاوزا لأن بروتين الغلوتين (الجلوتين) الذي يوجد في القمح والشعير وحبوب الجاودر ويعطي الخبز والعجينة تماسكها وليونتها يسبب مرضا مناعيا يختلف عن الحساسية التي تسببها بعض الأطعمة مثل الحساسية للبيض أو للسمك وغيره. ويستخدم الغلوتين في تصنيع الكثير من المواد الغذائية ومواد الاستخدام الشخصي مثل المنظفات ومعاجين الأسنان وغيرها. وهذا المرض المناعي يصيب الأمعاء الدقيقة نتيجة تكوين الجسم أجساما مضادة لبروتين الغلوتين وهذه الأجسام المضادة تهاجم الأنسجة المبطنة للأمعاء الدقيقة مما ينتج عنه التهاب مزمن وتواجد مزمن للخلايا الليمفاوية في نسيج الأمعاء مما يسبب ضمورا في الهديبات أو الزغب الموجود في الأمعاء والذي يمتص الطعام، فينتج عن ذلك نقص في امتصاص الكثير من المواد الغذائية المهمة. ويسبب المرض أعراضا كثيرة تتجاوز الجهاز الهضمي إلى الأعضاء الأخرى مثل الكبد والعظام والجهاز العصبي. ففي الجهاز الهضمي قد يعاني المريض من الإسهال المزمن والذي قد يتحول إلى إمساك في بعض الأحيان، وانتفاخ البطن وكثرة الغازات والحموضة. ولكن أعراض الجهاز الهضمي قد لا تكون بارزة خاصة عند البالغين حيث تظهر أعراض أخرى مثل نقص الوزن وضمور العضلات عند البعض. ونتيجة لسوء امتصاص المواد الغذائية المهمة للجسم، قد يحدث نقص في بعض المواد المهمة للجسم مثل نقص الحديد والذي يعتبر عاملا محفزا ومهماً لعمل الكثير من الانزيمات في الجسم ومنها انتاج الطاقة كما أن نقصه المزمن يسبب فقر الدم. خلال دراستنا للطب في الكلية وخلال مرحلة التخصص، ذُكر لنا دائما أن مرض السيلياك مرض يصيب الأطفال من أصول أوروبية (الجنس الأبيض – القوقازيين ). وفي كتاب شهير عن أمراض الجهاز الهضمي عند الأطفال للطبيبة شارلوت أندرسون نشر عام 1975 ذكرت الكاتبة بالنص "أن طفل مرض السيلياك التقليدي أشقر الشعر وأزرق العينين". ولأن مرض السيلياك يتعلق بدرجة كبيرة بالجينات التي يحملها الشخص، فإن هذا الفكر الطبي الذي تم تدريسه لأجيال من الأطباء أدى إلى اعتقاد بين المعالجين يصل إلى حد اليقين بأن مرض السيلياك مرض يصيب الجنس الأبيض وهو نادر جدا بين العرب والذي بدوره نتج عنه عدم معرفة بوجود المرض بين العرب والتشخيص الخاطئ أو عدم التشخيص الدقيق وصرف أدوية خاطئة. يسبب المرض أعراضاً كثيرة تتجاوز الجهاز الهضمي من خلال تواصلي مع المختصين في مرض السيلياك في المملكة ومن خلال تواصلي كذلك مع الكثير من مرضى السيلياك العرب في مواقع التواصل الاجتماعي، أدركت أن المرض ليس نادرا بيننا كما كنا نتصور ولكن المؤكد أن التشخيص يتأخر عند الكثير حتى يبدأ ظهور المضاعفات. لذلك بحثت في تاريخ المرض وكيفية نشأته وأردت أن أنشر هذه المعلومات لعلها تزيد الوعي بهذا المرض بين العامة والمعالجين. مع اكتشاف اختبارات مناعية خاصة للكشف المبكر على المرض في تسعينيات القرن الماضي أصبح الكشف على المرض اسهل وظهر العديد من الدراسات المسحية في دول مجاورة اثبتت أن المرض ليس نادرا في منطقتنا كما كان يعتقد سابقا. يعتقد الكثير من المختصين أن شيوع المرض يصل أعلى نسبه في غرب أوروبا والدول الاسكندنافية حيث تصل النسبة إلى 1-2%. ولكن الواقع خلاف ذلك، فقد أظهرت دراسة مسحية كشفية أن نسبة الإصابة بالمرض تصل إلى 5.6% في منطقة الصحراء الغربية وهي منطقة يسكنها العرب والبربر، أي ما يصل إلى ثلاثة أضعاف نسبته في أوروبا. كما ظهرت عدة أبحاث مسحية حديثة من إيران أظهرت أن نسبة حدوث المرض مقاربة للنسب الأوروبية. وحديثا وُجد في تركيا أن النسب قريبة من أوروبا كذلك. وفي العالم العربي أظهرت دراسات مسحية في مصر وبين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة نسبة إصابة مرتفعة تصل إلى 1%. وعندنا في المملكة، قام فريق بحثي من جامعة الملك سعود بإجراء بحث كشفي مسحي لمرض السيلياك بين طلاب المدراس الثانوية في ثلاث مناطق من المملكة وقدم البحث د. عبدالرحمن الجبرين في مؤتمر الجمعية الأمريكية للجهاز الهضمي عام 2010 ونشر كملخص بحثي في المجلة الأمريكية للجهاز الهضمي. حيث قام الباحثون بقياس الأجسام المضادة عند عينة عشوائية من طلاب المدارس الثانوية تتكون من حوالي 1200 طالب وطالبة بين عامي 2007-2008 في مناطق عسير والمدينة والقصيم. وأظهرت النتائج أن 2.2% من الطلاب كانت نتائجهم موجبة وهي نسبة مرتفعة جدا تعادل أعلى النسب في أوروبا. يظهر من الدراسات السابقة أن مرض السيلياك موجود في الجنس العربي ولكنه لا يشخص بسبب نقص المعرفة بين الكثير من المعالجين. وزيادة في البحث، قرأت ما كتبه بعض المختصين العالميين حول تاريخ ظهور المرض وكانت النتائج مدهشة. حيث يعتقد الباحثون أن مرض السيلياك لم يظهر مع بداية وجود الإنسان على الأرض وإنما بعد فترات طويلة لأن غذاء الإنسان في البدايات اعتمد على الصيد والفواكه والخضار. ويعتقد الباحثون بناء على الأدلة المتوفرة أن زراعة القمح والحبوب الأخرى التي تحوي الغلوتين بدأت من حوالي عشرة آلاف سنة تقريبا في منطقة الهلال الخصيب أي العراق وسوريا وفلسطين ولبنان أي منطقتنا العربية. وبعد ذلك نقل المزارعون زراعة القمح تدريجيا إلى أوروبا ويُعتقد أن زراعة القمح وصلت غرب أوروبا قبل حوالي 4000 سنة. وهذا يعني أن سكان المنطقة العربية تعرضوا لبروتين الغلوتين لفترة طويلة قبل الأوروبيين. لذلك ليس من المستغرب أن تظهر الأبحاث الحديثة أن المرض شائع في هذا المنطقة وقد لا يقل عن شيوعه في أوروبا. ولأن ظهور مرض السيلياك يعتمد على مدة وكمية التعرض لبروتين الغلوتين، فإن توفر القمح بشكل كبير ودخوله في تصنيع الكثير من الأطعمة والمواد الحافظة أدى إلى زيادة انتشار المرض. المشكلة التي تبقى ان مريض السيلياك وعائلته إن كان طفلا يعانون كثيرا إلى أن يتم تشخيص المرض لديهم بسبب عدم معرفة الكثير من المعالجين بوجود المرض وبطرق تشخيصه، ويعانون بعد التشخيص بسبب عدم توفر الأغذية الخالية من الغلوتين والخاصة بمرضى السيلياك وعدم وجود الاهتمام الكافي من الجهات الصحية المعنية مثل وزارة الصحة وهيئة الغذاء والدواء بهذا المرض حيث لا توجد تشريعات منفذة على أرض الواقع تلزم مصنعي الأغذية بوضع مكونات الغذاء وهل يحتوي على الغلوتين كما في الدول الأوروبية كما لا توفر المستشفيات الأغذية المناسبة للمرضى. السيلياك يعرف تجاوزاً بحساسية القمح