في المقال السابق تناولت بالتحليل بعض ملامح معالجة الفكر السعودي لظاهرة الإرهاب وذلك من خلال استقراء بعض الكتب الحديثة التي صدرت مؤخراً وتضمنت مقالات ودراسات لبعض الكتاب والمثقفين من مختلف التيارات الفكرية في المملكة. لقد خلصت في ذلك المقال - وكما يتضح من عنوان هذا المقال أيضاً - إلى أن الفكر السعودي لا يقول سوى نصف الحقيقة عندما يركز في تحليلاته على البعد الخارجي المحرض للتطرف والإرهاب، وهي سياسات الولاياتالمتحدة والغرب المعادية للمسلمين وقضاياهم في غير مكان من العالم، مع التأكيد على أن الإرهاب موجود في ثقافات ومجتمعات أخرى غربية وشرقية. هذا التحليل - في رأيي - لا يكفي لأن المطلوب ليس فقط إقناع الآخر ببراءة ثقافتنا ومجتمعنا، وأن الظاهرة طارئة ولا جذور لها، بل أيضاً - وهذا هو الأهم - الانتقال إلى خطورة أبعد من ذلك وأعمق لنحلل أسلوب اتخاذ العنف وسيلة للتغيير وهي الوسيلة التي تتمسك بها بعض الجماعات الإسلامية ويدعو لها بعض المفكرين الإسلاميين، واقتنع بها عدد من الشباب المتحمس للدين وللدعوة والجهاد فانضموا إلى تلك الجماعات أو عملوا كخلايا هنا وهناك لبث فكر التطرف وتأجيج المشاعر لزيادة وتيرة العنف. وإذا كنا ندين هذا الأسلوب ونعتبره خطراً على الأمن وعلى مكتسبات الدعوة وخطراً على صورة الإسلام والمسلمين وعلى قدرتهم على التعامل بإيجابية في الحياة المعاصرة، فإننا يجب أن نتجه إلى تحليل الأسباب الداخلية - وليس فقط الأسباب الخارجية - ويجب أن نتجه إلى تحليل مفردات الخطاب الدعوي المحلي الذي إن لم يعلن صراحة موافقته لأطروحات العنف والتكفير، فإنه يقف موقفاً سلبياً من الدعوة للتعامل الإيجابي مع العالم ومع الانفتاح الثقافي مع حضارات العالم، كما أننا يجب أن نتجه إلى تحليل مستوى الثقافة السياسية لدى قادة العمل الإسلامي وأئمة المساجد وخطبائها ومنظمي الأنشطة الإسلامية أياً كان نوعها. إننا نستطيع أن نشتم أمريكا وأوروبا صباحاً ومساءً ونعقد لذلك الندوات والمحاضرات ونؤلف في ذلك الكتب والمقالات، ولكن ذلك لا يغير شيئاً من الواقع، فالغرب غالباً لا يكترث لمثل هذه الشتائم وهذه الانتقادات، بل إن الغرب يجد من أبنائه من هو أشد تأثيراً في النقد وفي تعرية مواقفه السياسية كما نجد ذلك عند نعوم تشومسكي وبول فيندلي في أمريكا، وعند روبرت فيسك وجورج غالوي في بريطانيا، أو روجيه جارودي ومفكري اليسار في فرنسا وغيرها. ولكن نقد الواقع المحلي ونقد الثقافة المعاصرة وسلبيات الخطاب الدعوي وسلبيات النشاط الإسلامي هو الأهم لأن ذلك يكون صعباً في ظل الثقافة الحالية التي تتسم بالتشتت والغوغائية وغياب المعايير العلمية والمنهجية الصحيحة في النقد. على الرغم من أن كتاب الدكتور محمود محمد سفر «الإسلام وأمريكا وأحداث سبتمبر»، يلامس بعض جوانب الخلل في ثقافة المسلم وشخصيته ويطالب بإصلاح الدعوة والدعاة ويستنكر فكر التكفير ويشير إلى أهمية تحليل الأسباب ورصدها التي قادت إلى انغماس بعض شباب الأمة في فكر التكفير «فلولا هذا الفكر لما كانت أحداث سبتمبر وتداعياتها المستمرة وآثارها السيئة على الأمة ودينها»، إلا أنه سرعان ما يهرب إلى الجهة الأخرى لينتقل بسرعة إلى موضوع أسهل على النفس تناوله ألا وهو الحديث عن أمريكا وعن سلوكها قبل أحداث سبتمبر وبعدها التي ساهمت في تأجيج مظاهر الغضب عليها، بل هو يتساءل - في صيغة الموافقة لخطاب تيارات التطرف في تأليب المشاعر وفي اتخاذ مواقف شمولية تعميمية - عن: «هل كانت الحسنة الوحيدة للأحداث المؤلمة التي هزت العالم هي سقوط الأقنعة المزيفة التي كانت تخفي الوجه الحقيقي للرجل الأبيض، من خلال تصرفات أمريكا مع العالم الملون؟!!»، ويشير أيضاً في سؤال آخر: «هل المطلوب من العرب والمسلمين، تجاه ما يحدث، أن يظلوا يحسنون الظن بالغرب، وحضارته، أم يطردوا الوهم ويكتشفوا الزيف والخداع، ويتحدوا في مواجهة ما يتعرضون له من حيف وظلم»؟! أما كتاب «السعوديون والإرهاب: رؤى عالمية» الذي صدر عن دار غيناء للنشر فقد تضمن مقالات لعدد كبير من الكتاب والصحفيين الغربيين والعرب لا يجمع بينهم جامع ولا يربط بينهم رابط، واستغربت بداية اختيار عنوان هذا الكتاب، فالحديث في معظم فصوله تركز على مواضيع عامة منها تعريف الإرهاب وعالميته ومحاولة التأكيد على أن الإسلام بريء منه، وأن الإرهاب موجود في ثقافات عالمية أخرى في أمريكا وأوروبا والهند وشرق آسيا، وأن الغرب يتعامل مع هذه القضية بمعايير مزدوجة ويتضح ذلك في عدم اهتمامه بوضع تعريف دقيق للإرهاب يكون معياراً للأمم المتحدة في قراراتها ويساهم في التفريق بين الإرهاب الحقيقي وبين حركات التحرر ومقاومة الطغيان. أما علاقة السعودية والفكر المحلي فقد كانت في فصول قليلة وكانت أضعف ما احتواه الكتاب، وهي تؤكد على نظرية تهرب الفكر الإسلامي المحلي من مناقشة القضايا الحساسة في الساحة المحلية، فبينما نجد أن معظم الكتاب الغربيين المشاركين في كتابة فصول الكتاب كانوا مباشرين وواضحين في نقد الفكر الغربي وفي نقد الممارسة السياسية الغربية والخطاب الإعلامي الغربي، نجد أن الكتّاب المسلمين - والسعوديين خصوصاً - يتحدثون بخطاب تبريري، وينتقلون إلى الجهة الثانية لنقد الغرب وممارساته بينما يوحي عنوان الكتاب بأن يكون النقد والتحليل يتجه إلى الفكر السعودي والبيئة المحلية وعلاقتها بالإرهاب. الكتاب الآخر الذي صدر عن دار النشر تلك، وهو بعنوان: «خطاب إلى الغرب: رؤية من السعودية»، وكتب مادته عدد من طلبة العلم والكُتّاب السعوديين، فهو يحمل - في تقديري - إشكالية حقيقية وهي محاولة مخاطبة الغرب بلغة تصالحية تبريرية عقلانية لا توجّه غالباً للقارئ السعودي أو الإسلامي الذي يواجه بخطاب قطعي سجالي مباشر، فلأول مرة أسمع أن الفكر الإسلامي المحلي يعتقد أن: «أمريكا ليست برجاً ينهدم ولا مبنى ينهار، وإنما هي تجربة من أضخم التجارب الإنسانية، ومن أكثرها ثراء وخصوبة، وقد قامت على مبادئ الحرية والانفتاح والتسامح والثقة واحترام فردية الإنسان والإصغاء لرأيه والاهتمام باحتياجاته». وأيضاً: «إننا نتابع باحترام وإعجاب يقظة الشعب الأمريكي ونزوعه نحو الحكمة والتعقل، كما نتابع ما يصدر من بعض الساسة والمثقفين والناشطين الأمريكيين من مناقشات موضوعية للمشكلات القائمة، ونقدِّر هذه الأصوات الحرة، ونوقن بأن أمريكا لن تتخلى عن أسلوب حياتها الذي حقق ازدهارها الشامل.» وهذه النظرة إن صدقت فهي تعبِّر عن تحول كبير في الفكر الإسلامي المحلي تجاه الآخر نأمل أن يستثمر في برامج عملية للحوار والتبادل الثقافي والعلمي. وفي الكتاب أيضاً لغة تصالحية عقلانية معتدلة - لا تسمعها في الخطاب الموجّه إلى الداخل - مثل التأكيد على أن: «الإسلام يؤيد بقوة موقف التضامن مع الآخرين لإرساء قواعد الأمن والاستقرار والسلام ومكافحة الفقر والأمراض والجريمة الفردية والجماعية. وهنا يمكن أن يعمل المسلمون دون كلل مع الآخرين لبناء عالم ينشد الاستقرار والتوازن واجتثاث أسباب العنف، وهذا يستدعي من كل المخلصين في العالم إقناع الإدارة الأمريكية برسم صورة صحيحة لمشكلة الإرهاب، والاتفاق مع كل القوى العالمية والمنظمات الدولية على وسائل معالجتها معالجة دولية جادة وعادلة وجذرية تنهي أسبابه وتجفف منابعه وتهيئ الإنسانية لسلام شامل وعادل ومستقر..» كما أنني لأول مرة أسمع في الخطاب المحلي من يؤكد على أن: «الإسلام وهو يشرع الجهاد لدفع العدوان لا يريد سوى إعادة حالة السلام مع المعتدي وإشاعة العدل والمساواة والخير للبشرية، ومحاربة الرذيلة والفساد..»، وأن: «الإسلام يأمر بالمسالمة والمصالحة والمهادنة»، ولهذا فإنه: «ليس من العدل ولا من الموضوعية اتهام الإسلام بأنه دين حرب وقتال، فالسلام هو الأصل، أما المنابذة فهي الاستثناء الذي لا يتم اللجوء إليه إلا عند الضرورة القصوى..» كما أنني أسمع لأول مرة التبرير الذي يحاول تفسير منع إقامة المعابد في جزيرة العرب بأنه بسبب أهمية «أن يحتفظ الإسلام لنفسه بركن صغير من أرضه كبقعة خالصة له بعيدة عن الاحتكاك المباشر الذي قد تأتي منه الشوائب».. ولهذا فإن تخصيص هذه الصحراء القاحلة لا يترتب عليه ضرر بمصالح البشرية، لأنه خلال كل القرون لم يكن فيها مطلب لأحد وليس فيها من مصادر الحياة ما تحتاجه البشرية في أرض الله الواسعة، كما أنها لا تعترض طرق التواصل بين بلدان العالم فهي أشبه بالجيب الأرضي الخالي تقريباً من الخيرات ومن السكان..» ولهذا أيضاً «لا يوجد أي ضرر على غير المسلمين من اعتبارها الموطن الأول والدائم والنقي للإسلام، ولم يكن ذلك نفي للآخر وإنما هو استصحاب لحالة قائمة وإبقاء على وضع مستقر..».