أثناء حديث قريبتي عن معاناتها مع زوجها السابق وعن أسباب انفصالهما وقع نظري على ابنتها، التي استوقفها الحديث عن والدها الذي لم يخل من نعته بأبشع الصفات وأقبح التصرفات، لا استطيع أن أصف الشعور الذي انتابني عندما رأيت تلك الطفلة تطيل النظر بانكسار لوالدتها وعينيها تمتلئان بالدموع والرجاء علّها تتوقف عن تشويه أجمل الصور التي تختزنها مخيلتها الصغيرة، والتي لا تحتمل قسوة تلك الكلمات. قد لا يختلف هذا الموقف عن غيره من المواقف التي يلجأ فيها أحد الوالدين بعد وقوع الطلاق إلى تشويه صورة طليقه، معتمداً في ذلك على مبررات من شأنها إقناع الأبناء بأنّه هو الطرف الأضعف والمظلوم، الذي عانى مرارة الألم والقهر ليفضح شريك حياته السابق بلا تردد وينشر ما لا يجوز البوح به متى ما أراد أمام الأبناء، ليكونوا بين ناري الانفصال والفرقة من ناحية، وما يسمعونه من تغذية معلوماتية سلبية لمواقف قد لا تتحملها عقولهم البريئة من ناحية أخرى. استخدام الأطفال في «تصفية الحسابات» بين الفرقاء يصيبهم بإضطرابات نفسية وسلوكية معقدة «الرياض» في هذا التحقيق ناقشت معاناة «أبناء المطلقين» ممن يتعرضون بشكل مباشر ومتعمد لتشويه صورة أحد والديهما، وأهم الانعاكسات السلبية المدمرة لمثل تلك الأحاديث سواء على نموهم النفسي أو الوجداني. سلاح نفسي بدايةً أوضح «د. هاني الغامدي» - محلل نفسي ومستشار العلاقات الأسرية والمجتمعية - أن مفردة «أسرة» تأتي ترميزا لمعنى التوازن الوجداني والعدل المشاعري وتوزيع الحقوق الإنسانية بين أفرادها، بحيث لا يطغى فرد على الآخر، فدور الزوج وما له وما عليه موضح في كل المراجع سواء الدينية أو الدنيوية كالأعراف والمبادئ والقيم وغيرها من المكونات الخاصة بالذهنية البشرية، وكذلك هو الحال مع الزوجة بل وينسحب ذلك على مفهوم العدل التربوي مع الأبناء، بغض النظر عن الخلافات أو الفوارق أو النتائج التي قد تؤدي إلى زعزعة الاتحاد الضمني، حيث يضمن حقوق كافة الأطراف حينما يتم الانفصال، مضيفاً أنّ بعض المنفصلين يستخدمون السلاح النفسي لضرب الطرف الآخر من خلال تحطيم مكانته بزرع الأفكار والتصورات في ذهنية الأبناء، مع تجاهل أهمية الحفاظ على ما هو أهم من إثبات المكانة أو الفوز بجولة أو التأثير على الأبناء؛ ليكونوا ورقة ضغط يشعر من خلال تملكه لها بالفوز والنصر على الطرف الآخر، موضحاً أنّ بعض الأبناء يعانون حالات نفسية صعبة ومعقدة بسبب التلاعب بهم، لافتاً إلى أنّ من يستخدم ورقة الأبناء سلاحا نفسيا لمهاجمة الآخر إنما هو شخص غير متزن عاطفياً وعقلياً، لأنّه تناسى أياما سابقة جمعته وشريك حياته على الحب والعشرة، داعياً الولدان بعد انفصالهما إلى ترك التفكير بجعل الأبناء ورقة ضغط على الطرف الآخر. صورة الوالدين في مخيلة الأطفال صافية نقيه لا تشوبها العيوب تصفية حسابات وأشار «د. محمد حسن عاشور» - مستشار تربوي وأسري وخبير في التنمية - إلى أنّ الطلاق في حد ذاته ليس مشكلة كبيرة، بل في بعض الحالات يكون الطلاق هو الخيار الإيجابي والحل الأنسب للزوجين وللأسرة عموماً - وإن كان الأصل فيه أنّه أبغض الحلال - مبيناً أنّ المشكلة الحقيقة تكمن في الممارسات الخاطئة أثناء التعامل مع موضوع الطلاق سواء كانت من الزوجين أو من المجتمع المحيط بهم، حتى يكون هذا الطلاقاً راقياً ومقبولاً اجتماعياً ونفسياً يحتاج إلى ركائز يستند عليها، ولعل من أهمها التعامل بالحسنى بين الطرفين، بحيث يذكر كلا الطرفين الآخر بخير أو يلتزم الصمت بعيداً عن التجريح والإساءة، وفي حالة وجود أبناء فعلى الطرفين أن يدركا أنّ العلاقة بينهم كزوجين إن انتهت فلن تنتهي علاقتهم كشركاء في تربية أبنائهم، وفي المحصلة سلوك الإنسان يعكس شخصيته، وبالتالي فلا مكان لتصفية الحسابات الشخصية سواء كان هناك أبناء أو لم يكن، فاستخدام أساليب وحيل الدفاع عن الذات من تبرير أو إسقاط سلوك يضر بالإنسان ذاته ويدمر شخصيته قبل أن يضر بأيّ طرف آخر، مشدداً على الأزواج أن لا ينسوا في غمرة التأثر بهذا الفراق والانفصال ما بينهم من سابق عشرة، ومودة ورحمة، فهناك حالات عديدة استطاعت أن تحقق طلاق هادئ إيجابي تعاون فيه الطرفين على تربية الأبناء تربية سليمة، ووجدوا من يساندهم ممن حولهم في إنجاح ذلك، مضيفاً أنّ الأشياء الجميلة في حياة الطفل محدودة ومعدودة وهي تشكل بناءات معرفيه جميلة في داخله، وبالتالي أيّ تصرف سيئ يمكن أن يشوه تلك البناءات الجميلة ويدمرها، لينتج عنها أبناء يعتريهم شيء من الكبت أو الاضطرابات النفسية أو المشكلات الدراسية أو مشكلات اجتماعية، وقد ينقلب ذلك إلى حقد أو عدوان تجاه المجتمع المحيط. تذبذب الشخصية وذكر «د. موسى البهدل « - أخصائي نفسي ومدرب في التنمية البشرية - أنّ تصفية الحسابات بهذا الأسلوب يعدّ خسارة لجميع الأطراف، مبيناً أنّ الأم في الغالب تصقل أفكار ومشاعر الطفل بُتهم سلبية تجاه الأب لتنتقم منه ولتحمي نفسها، بينما لا تعلم أنّها تصنع شخصيات مضطربة وقد تكون مكتئبة أو عدوانية، حيث تتشكل التصورات الذهنية والوجدانية بصورة بشعة تنمو مع الأطفال فتنعكس سلباً على سلوكياتهم وحياتهم ومستقبلهم، فهناك على سبيل المثال الاضطرابات النفسية والسلوكية المتفاوتة وغير الإرادية، كما يرافقهم شعور عميق بالحزن وخيبة الأمل، وقد يميل الأبناء إلى الانسحاب من مجابهة الألم الناتج عن ذلك التشويه فيبقوا في انعزال نفسي، وإذا استمر وزادت الضغوط قد يصابون بالاكتئاب، كما أنّهم معرضون لفقدان الأمن وتذبذب في الشخصية، حيث ينتابهم شعور عميق بالكره والسخط، وأيضاً قد تكون ردة الفعل عدوانية حيث يعبر الأبناء عن الغضب في بعض الأحيان محاولين بذلك معاقبة الطرف المذنب، حيث هذا الغضب يمكن أن يفسر كنوع من إخراج لشعور مكبوت بسبب ما تغذى من أفكار خاطئة منذ طفولته، مضيفاً أنّ الخوف من المستقبل يعد انعكاسا للحياة التي عاشها الأبناء من تشويه للحياة الأسرية، حيث الظلم الكائن من أحد الطرفين، وقد يمتد ذلك الخوف وعدم الثقة بالآخر في العلاقات الاجتماعية المحيطة ببيئة الأبناء، فنجدهم يعيشون في عزلة عن الناس بسبب ذلك الظلم والسخط الذي تربى عليه الأبناء. الطلاق قد يكون هو الخيار الإيجابي والأنسب للزوجين حاجز الاحترام وأكدت «د. نادية التميمي» - أخصائية في علم النفس الإكلينيكي والإرشاد الزواجي - على أنّ محاولة تنفير الأبناء وتشويه صورة أحد الطرفين للأخر لا تقتصر على على حالات الطلاق فقط، بل إنّ هناك علاقات زوجية مستمرة ويتم فيها تشويه صورة أحد الوالدين سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، وبالرغم من إدراك بعض منهم الانعكاسات السلبية على شخصية وسلوك الطفل، إلاّ أنّهم لا يمتنعون عن ترديد تلك الكلمات، مبينةً أنّ شعور أحد الوالدين بعد الطلاق بأنّه هو المسؤول عن نهاية وفشل الزواج وتشتت الأسرة يدفعه للدفاع عن صورته ومكانته معتقداً بأنّه هو الرابح الذي تمكن من استمالة أبنائه نحوه، ولكن ردة الفعل الأولى للأبناء ستكون انكسار حاجز الاحترام ومتى ما نكسر هذا الحاجز يصبح من الصعب توجيه وإرشاد وضبط الأبناء الذين فقدوا تلك النظرة المثالية والصورة المتزنة عن أحد والديهما. فالأبناء منذ صغرهم ينظرون إلى والديهم على أنّهم أشخاص مثاليين ولا يمكن أن تكون الصورة خارج ذلك الإطار، حتى حين يكتشفوا بأنفسهم ودون تحريض أو تشويه عيوب في شخصية أحد والديهم نجدهم ينكرون هذا السلوك ويحاولون عدم الاعتراف به، فكيف إذا كان من يسعى لتشويه تلك الصورة هو أحد الوالدين، الذي ربما ينجح في استمالة الأبناء نحوه لفترة من الزمن، ولكن مع مرور الوقت ونضج الأبناء وقدرتهم على التمييز حينها يصبح الموقف ضد من بدأ بالتحريض والتشويه، وسيعلمون بأنّهم كانوا مدفوعين للكره والظلم للطرف الأخر، وربما يبتعدون عن المتسبب في تشويه صورة والدهم او والدتهم، مشددة على ضرورة أن يعمل الحاضن للأبناء بعد الطلاق على تحسين صورة الطرف الآخر أو محاولة الاحتفاظ بالصورة الطبيعية المنطقية التي من شأنها المحافظة على النمو النفسي الطبيعي للأبناء، وليتعلموا الطرائق السليمة والواقعية للتعامل مع الشخص المسيء. استخدام أحد الأبناء لتشويه سمعة أحد الوالدين قد يعود سلباً على الطفل نفسه