أكد المفكر والكاتب والوزير البحريني السابق الدكتور علي فخرو، أن الثقافة العربية تعرَّضت عبر مراحل تاريخها الحديث للغزو والتبعية والاختراق، والمحَّصلة واحدة وهي أن الثقافة العربية في حالتها الحالية تواجه خطر التهميش والإضعاف، وبالتالي ضمور الحيوية والإبداع فيها، وهذا كله سيعرّضها للموت البطيء والانقراض.. تماماً كما حدث للكثير من الثقافات والحضارات الأخرى. وأوضح د.فخرو أنه لما كانت الثقافة معنية بكثير من الأمور، من مثل اللغة والعادات والقيم والسلوك والرموز والفكر والدين والآداب والفنون وغيرها، فإنه من الطبيعي أن يختلف مقدار الاختراق لتلك المكوّنات وتتباين تأثيراته على كل مكوِّن، لكن المدخل الرئيسي لتأثير ذلك الاختراق من قبل الثقافة المتبوعة على أيٍّ من مكونات الثقافة التابعة سيعتمد على مقدار نجاح الاختراق في اختطاف وتوجيه عقل ومشاعر ووعي وإدراك أصحاب الثقافة التابعة.. لافتا الانتباه إلى أن التسميات التي توصف بها العلاقة التفاعلية فيما بين الثقافة العربية من جهة والثقافة العولمية المهيمنة تختلف، وهي في غالبها أمركة عولمية، مشيرا إلى أنه من جهة أخرى، بأن البعض يعتبرها كغزو ثقافي من قبل ثقافة قوية متنامية لثقافة ضعيفة متقهقرة، ويعبّر عن هذا المفهوم ما قامت به الدول الاستعمارية أثناء احتلالها لمختلف البلدان العربية من محاولات لتحطيم وتشويه وإقصاء للثقافة العربية ولوعائها اللغة العربية. وأضاف د. فخرو بأن البعض الآخر يعتبرهذه العلاقة علاقة تبعية من قبل ثقافة ضعيفة غير واثقة من فعاليتها وقيمتها لثقافة، وأخرى قوية ومسيطرة... جاء ذلك خلال مشاركته في أعمال المؤتمر السنوي الثاني عشر لمركز الخليج للدراسات التابع لدار الخليج في مدينة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة، الذي ناقش الإعلام العربي وقضايا الأمة، بورقة عمل حملت عنوان: "الإعلام العربي والغزو الثقافي" التي يرى فيها بأن محاولة التعرف على أصل المشكلة ووجهها الجديد، يستدعي الإشارة إلى أن المجتمعات القوية المتقدمة المكتفية بذاتها اقتصادياً وأمنياً لا تخاف على ثقافتها من تأثيرات ثقافة الآخرين، ولا تتهيَّب حدوث التفاعل والتلاقح الثقافي، موضحا بأنه عندما كان العرب في أوج مجدهم الحضاري الإسلامي وفي مكانة تاريخية متميزة محترمة لم يترددوا عن الانفتاح على قسم كبير من الحضارات الأخرى كاليونانية والفارسية والهندية، حيث نهلوا من كل تلك الحضارات علماً وفكراً وكلَّ ما يغني الحياة، فهضموا الصالح ورفضوا الطالح دون إحساس أجوف بالتفوق أو خوف من التبعية، وعندما دخلت الحضارة العربية الإسلامية في مرحلة الضعف والتخلف والإغفاءة الحضارية، توقفت عملية التفاعل والتلاقح الثقافي الإيجابية تلك حتى وصلت حملة نابليون الاستعمارية لمصر، وعند ذاك بدأت مرحلة جديدة بالنسبة للثقافة العربية الإسلامية، واتصفت تلك المرحلة في بداياتها بالانبهار المبالغ فيه بثقافة الآخر الغربي من جهة، وبالخوف المفرط من إمكانية هزيمة ثم موت ثقافة الأمة من جهة أخرى. وقال د.فخرو: بعد الاندحار الاستعماري العسكري في منتصف القرن الماضي وحصول البلدان العربية المستعمرة على استقلالها وقيام الدولة الوطنية الحديثة، تبدلت صورة العلاقة بين الثقافة العربية والثقافة المركزية الغربية العالمية.. وطرحت العولمة أفكاراً وشعارات في عوالم الاقتصاد والسياسة والثقافة، وأصرَّ عرَّابو العولمة على نهاية التاريخ ونهاية الأيديولوجيات لصالح ظفر محتَّم للحضارة الغربية، وفجأة وجد العالم نفسه أمام حتميات تقدَّم له.. ففي السياسة حتمية انتصار النظام الديموقراطي كما بنته ومارسته مجتمعات الغرب، وفي الاقتصاد حتمية نظام رأسمالي عولمي قائم على حرية الأسواق وحرية التبادل التجاري بين الدول دون عوائق أو نظام حماية أو دعم للمنشآت الوطنية، أي دون تدخل من الدولة الوطنية، وفي الثقافة حتمية زوال الهويات القومية والوطنية التدريجي لصالح انتماء لعالم واحد تسوده مسلًّمات حضارة الغرب المركزية التي من أبرزها الفردية الأنانية المفرطة والحرية غير المقيَّدة للخيار الشخصي والحياد البارد تجاه الآخرين وتجاه ما يجري في المجتمع. ومضى د. فخروا مستعرضا التأثيرات المتشابهة في الوطن العربي بوجه عام عطفا على الوسائل السمعبصرية.. مؤكدا على أنه يمكن إجمال تلك التأثيرات في العناوين التالية: تهديد الهوية، التي وصفها بأنها مهدَّدة بانتعاش الهويات الفرعية الإثنية والطائفية واللغوية، خصوصاً أن جزءً من المخطط الامبريالي العولمي يرمي إلى إثارة ومساندة قيام وانتعاش وترسُّخ تلك الهويات الفرعية في شتَّى أقطار الوطن العربي سواء بالمال أو التضليل الإعلامي أو من خلال مختلف المؤسسات الدولية الخاضعة للدول النافذة المهيمنة كالولايات المتحدةالأمريكية أو للنفوذ الصهيوني الهائل السَّاعي إلى تفتيت الهوية العربية لمنع قيام الوحدة العربية القومية بل وتفتيت الأجزاء.. مشيرا إلى أنه في ظلّ تلك الأوضاع السلبيَّة الذاتية للهوية العربية الجامعة اقتحمت العولمية الثقافية العربية، من خلال آلة إعلامية هائلة ووسائل تواصل سمعية وبصرية والكترونية تحمل سيلاً متدفقاً ليل نهار من المعلومات والصور والإيحاءات والقيم والشعارات والإعلانات وغيرها التي تمّجد الفردية غير الملتزمة بوطن وقومية وتشغل الإنسان بتبنّي وممارسة ثقافة الاستهلاك النّهم المادّي والترفيهي. أما عهن دور الإعلام العربي في هذا السياق فقال د. فخرو: دعنا أخيراً نطرح السؤال المتعلق بدور الإعلام العربي في هذه المعركة، إن الوسيلة الأهم لاختراق الثقافة العولمية، ومركزيتها في عواصم الغرب وعلى الأخص الأمريكي منه، للثقافة العربية هي البرامج الإعلامية السمعية والبصرية والالكترونية الهائلة التي امتدَّت وتضخَّمت لتصل إلى كل بيت عربي، وإن نظرة واحدة على شاشات التلفزيونات العربية، المحلية أو الفضائية منها، تظهر كم تسيطر المادة الثقافية الأجنبية، سواء بلغات أجنية أم مترجمة إلى اللغة العربية، على المشهد التلفزيوني برمَّته.. مستدركا في هذا الجانب بعض المحاولات القليلة الجادَّة في بعض بلاد العرب لخلق إعلام عربي منافس للإعلام العولمي الأمريكي على الأخص، لا تكفي، وهي مبعثرة من جهة ومتنافسة أحياناً فيما بينها من جهة ثانية، كما أن الإعلام العولمي سيل كبير جارف لا تصدُّه الإمكانيات القُطرية مهما بذل فيها من مال، فليس بالمال وحده يبنى الإعلام الرَّصين الجاذب الموثوق به وليس بالمال وحده يمكن صدّ الهجمة الثقافية العولمية. وختم د. فخرو حديثه مؤكدا على أن الجواب على تلك الصورة القاتمة يجب أن يمرَّ من خلال عمليات إصلاح عميقة لنقاط الضعف في ثقافتنا ومن خلال عملية تجديد شجاع من داخل ثقافتنا وليس من خارجها.. لكون الكثير من الإشكاليات في الثقافة العربية سيمكن إزالتها من خلال التقدم، حتى الجزئي، في تحقُّق مكوِّنات المشروع النهضوي.. مشيرا إلى أن هذا لا يمنع قيام المبادرات لوضع استراتيجيات متكاملة لإصلاح ونهضة وتجدُّد الثقافة العربية، كما فعلت المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة منذ عدة سنوات.. كما لا يمنع - أيضا - من بذل الجهود من قبل المفكرين العرب لإخراج الثقافة من أكبر محنة عاشتها عبر أكثر من قرن وهي محنة الثنائيات التي أنهكتها وخصوصاً ثنائية الأصالة والمعاصرة وثنائية التراث والحداثة.. مؤكدا على أن المسألة الثقافية كتب عنها الكثير، ونوقشت في عشرات المؤتمرات، إلا أن حَّلها النهائي يحتاج إلى أمة موحدة حرَّة ناهضة تتطلًّع إلى أفق المستقبل السَّاطع المبهر.