حتى وقت قريب كانت علاقتنا مع الغبار متقطعة. كل أربعة أو خمسة شهور يهب مرة أو مرتين. ولكنه الآن أصبح ضيفاً شبه دائم للحد الذي أصبح محورًا أساسياً للحديث اليومي . الآن هناك سواليف ونكت وحكم كلها تتعلق بهذا الصديق الجديد الذي لا يمكن مقارنته بصاحبنا القديم. الغبار الأول مؤدب جدا. يأتي على استحياء ولا يمكث طويلاً ويعقبه ، بحول الله ، مطر يجمل من ذكراه. أما غبار هذه الأيام فهو شرس وأشبه – كما تظهره الصور- بإعصار ترابي. نعرف أن الغبار له مضار صحية أبرزها تزايد المصابين بالربو وحساسية الجيوب الأنفية ( أستغرب من الذي يسكن الرياض ولا يصاب بالحساسية. إما أنه لا يملك جهازا تنفسيا أو لديه أنف من فولاذ ). لكن هل هذه فقط تأثيرات الغبار علينا؟. أين يذهب كل هذا الغبار الذي يتسلل من كل المسامات ( حتى لو تظاهرنا بالذكاء وتلطمنا بالشمغ ) ؟ هل يمكن أن يؤثر ذلك على أدمغتنا ؟ هل سيؤثر ذلك بالتالي على قوة ذاكرتنا وقدرتنا على التعلم ؟ . لم أكن لأفكر بهذه الأسئلة الجديدة لو لم أقرأ مؤخرا دراسة علمية تؤكد تأثير التلوث فعلياً على الدماغ . تقول هذه الدراسة التي أجرتها عالمة الأعصاب في جامعة مونتانا ليليان كالديرون ان الحائل الدموي الذي يحمي الدماغ ليست مانعا قويا بما فيه الكفاية، كما كان يعتقد بالسابق. لذا فإن استنشاق الهواء الملوث يؤدي إلى الإضرار بشكل محدود ولكنه مؤثر على التعلم والذاكرة. لاختبار ذلك قامت بإخضاع مجموعة من الطلاب لتجربة العيش في مدينة ملوثة بعد أن كانوا يعيشون في مدينة نقية الهواء . بعد عامين أظهر ذات الطلاب قدرات أقل في التعلم والتذكر مقارنة بما كانوا عليه في السابق. العالمة المصدومة اكتشفت أن المناطق المتضررة بالدماغ مشابهة لتلك التي لدى المصابين بالزهايمر !. لا مفر بعد أن تقرأ الدراسة أن تسأل هذا السؤال البريء : " طيب ، و أطنان الغبار التي استنشقناها منذ الصغر ماهو تأثيرها على صحة أدمغتنا وسلامتها ؟!. أحد الأصدقاء الذين لا يصدقون كل هذه الدراسات العلمية ( هو من النوع الذي لحد الآن متيقن أن نزول الأمريكان على سطح القمر كان مجرد فيلم مفبرك ) يقول " لو صحت هذه الدراسة فإن أغلب السعوديين الآن مصابين بالخرف ! ". ولكن من يضمن لنا أننا لن نصاب به قريباً ! . مع أن كلامه ظاهرياً صحيح إلا أن على أطباء المخ والأعصاب لدينا إجراء فحوصات سريعة على أدمغتنا غير المحظوظة بهذه الاجواء المغبرة والملوثة التي تعمل بها ، والتي تؤكد المؤشرات أنها ستتصاعد في المستقبل. ولكن التلوث ( مضافاً إليه الغبار في حالتنا ) يؤثر أيضا على النفسية ويتسبب بالإحباط والاكتئاب. في دراسة علمية أخرى أصدرتها جامعة أوهايو الأمريكية أخضع فأراً لأجواء ملوثة لفترة طويلة . بعد مدة أظهر الفأر علامات على الاكتئاب و مشاكل في الذاكرة . في الواقع نعرف ( خصوصا نحن ) كيف يمكن أن تؤثر الأجواء على نفسياتنا وأمزجتنا . أي أحد يسوق في شارع الملك فهد أو خريص ، ظهرا وبالصيف، يعرف كيف تتوتر الأمزجة وتهبط النفسيات وتخرب الأخلاق . لكن هذه المظاهر تتغير إذا كانت الأجواء مغيمة وماطرة ( طبعا توجد مجموعات متكدرة طول الوقت . هؤلاء خارج التصنيف ) . لكن هل تؤثر هذه الأجواء إذا استمرت على ثقافتنا وطريقة تفكيرنا ؟ . هل تتدخل بقوة لتشكل أمزجتنا لوقت أطول ؟ . بالنسبة للأمزجة فيبدو أن ذلك صحيح لأن الأجواء السيئة ( بالإضافة إلى ضررها على الصحة ) تدخل في تشكيل مزاجك بشكل عام . نلاحظ ذلك بسهولة إذا سافرنا و مكثنا لوقت طويل في أجواء نقية وجميلة . لسنا نحن ، ولكن الإنجليز يقولون انها تتعدل أمزجتهم إذا غيروا أجواءهم الباعثة على الكآبة بسبب غياب دفء الشمس ونورها ( هذا ليس رأينا بكل تأكيد ) . ولهذا السبب فإن أجواء سكان مدن مثل سان دييغو أو سانتا باربرا الأمريكية يعتبرون من أسعد الناس بسبب الجو الساحر لتلك المدن ( من يزور تلك الأماكن ويستنشق هوائها النظيف لا بد أن يرمي اللوم بسبب قلة ذكائه ونقص إنتاجه على حرارة الشمس والغبار اللذين ينهكان كل قواه ، ويجعلانه فقط يريد النوم أو الذهاب للاستراحة ) . أما بالنسبة للثقافة فمع أن هناك أحاديث تقول ان الطقس يؤثر بعمق على الثقافة وعلى قيم الناس وسلوكهم ( مثل من من يعزو الانغلاق والجفاف العاطفي لخشونة الأجواء الصحراوية ، أو أن الحر الشديد في وسط أفريقيا كان أحد الأسباب التي أضعفت الإحساس بقيم العمل والنظام ) ، إلا أن هذا في ظني غير صحيح. الناس يمكن أن يكونوا ناعمين نفسيا حتى في أكثر الأجواء قسوة بشرط أن يكبروا في ثقافة تشجع على ترقية الذات بالفكر والفنون . لهذا نجد لدينا شخصيات متحضرة وناعمة نفسياً رغم أنها عاشت طول عمرها في الصحراء. في الواقع إن الصحراء يمكن أن تكون مصدر إلهام ثريا لتغذية الجمال الداخلي للشخصية نفسها . والعكس صحيح ، حيث نجد شخصيات جلفة رغم عيشها الطويل في أجواء خلابة .