ذهبت كثير من النظريات العلمية التي تعلمتها في مقاعد الدراسة أدراج النسيان وقليلا ما أًذكرها أو أحتاج إليها ، فالسلوكيات والنظريات والقوانين تخضع عندي للأحاسيس والعواطف سواء أوافقت العقل والمنطق أم لم توافقه. أما نظرية بافلوف في "الارتباط الشرطي" التي توصّل إليها من خلال ملاحظاته للسلوك الحيواني وارتباطه بمؤثرات خارجية ؛ تُطبق عند وقوع حدث مع مثير حسي أو شرطي في وقت واحد يرتبط أحدهما بالآخر! وأيا كان نوع المثيرات فهذه النظرية تعيش معي أحداث حياتي كلها وكذلك كثير من الناس. كأن يعتبر أحدهم مشهد حديقة أو غابة خريفية أحمّرت واصفرّت أشجارها وامتلأت الأرض بالأوراق الشاحبة التي فارقت الحياة ؛ المشهد الأكثر رومانسية يخفق قلبه كلما رآه في صورة أو فيلم أو في الطبيعة ؛ لأن المشهد ارتبط بلقائه بمن يحب تحت الشجرة القرمزية وتساقط أوراقها على شعر حبيبته ! فيرتبط الخريف لديه بأجمل وأدفأ اللحظات. وآخر يثير المشهد في نفسه الخوف من الأشباح لأن أول فيلم رعب شاهده دارت أحداثه ببيت مسكون في فصل الخريف. وكم ارتبطت الأماكن والروائح والأصوات والأشياء بذكريات نسترجعها بمجرد رؤيتنا للصور. فحين يسافر المصور ويلتقط بعدسته الطبيعة والشوارع والناس والمباني ترتبط الصور لديه بعطر مميز كان يملأ حواسه وأصوات الشلالات وألحان عازفي الطرق ومتوسدي الأرصفة ورائحة المطاعم الشهية ولسعة برد الشتاء وألم القدمين من طول المشي . وحين يعود ويتصفح الصور تستيقظ حواسه كلها بمجرد نظرة. هكذا هم البشر؛ فكم ارتبط الحب بليالي فينيسيا .. وارتبط الصباح بصوت فيروز .. والمطر بدموع العاشقين .. وأغنية "الأماكن" برعشات قلوب المشتاقين .. والقمر بليالي دبي .. وصوت الديك ببيت جدتي .. ورائحة ممحاة الفراولة بصف الروضة .. ومذاق التين ببساتين الطائف العتيقة .. وصوت المآذن بشهر رمضان .. ومرارة الدموع بوفاة أبي ! الصور حياة نعيشها مرتين الأولى لحظة التقاطنا للصورة ؛ والأخرى حين نسترجع المرة الأولى ، وقد نسترجعها مرات ومرات. ولكن ماذا نفعل حين ترتبط الأحداث بذكريات مؤلمة نريد أن ننساها! نعود لنظرية بافلوف في "الارتباط الشرطي" لقطع ذلك الارتباط يستوجب حدوث نفس الحدث عدة مرات في ظروف مختلفة فكما تقول النظرية " تنطفئ الاستجابة الشرطية تلقائيا إذا قُدمت المثيرات الشرطية وحدها لمرات عديدة دون تعزيزها بالمثيرات الطبيعية" وهذا يعني العودة لنفس المكان في ظروف مختلفة ، وسماع الأصوات الحزينة في أجواء فرح ، واستخدام العطور التي تحمل ذكريات نريد نسيانها في مناسبات سعيدة. وسوف ينطفئ ألم التجارب الفاشلة ولن نبكي حين نسمع "الأماكن" ولن يرتبط الصباح بصوت فيروز ولا القمر بليالي دبي ؛ حين يغادر الأحبة مرافئنا.