أصدرت الشاعرة الأردنية المقيمة في «لندن» لينا أبو بكر مجموعتها الشعرية الثانية (خلف أسوار القيامة) وهي مجموعة تحمل هما إنسانيا عميقا وإحساساً كبيرا بالوطنية والعيش مع المعاناة التي يعيشها الفرد في عالمنا العربي المعاصر. عبر الإنترنت التي تسهل الوصول الى مكان في العالم أجريت هذه المقابلة الأولى مع الشاعرة حول ديوانها الشعري ورؤيتها للشعر والأدب بشكل عام. ٭ هل هذه المجموعة هي الأولى لك، ولماذا الشعر خاصة وأنه تراجع لصالح انواع اخرى من التعبير؟ هذه هي المجموعة الشعرية الثانية، حيث صدرت مجموعتي الأولى (المحارة الجريحة) عام 2000، عن مكتب أمانة عمان ووزارة الثقافة الأردنية كبادرة تكريم لشعري. والشعر أولا وآخراً، لأنه الغواية التي تشف ولا تصف، ولأنه الرهان الأخير على الحياة، هذا بالنسبة لي شخصيا، أما إذا أردت أن نتحدث عن مرتبة الشعر فعليا ومدى احترافه والولاء له على مستوى الكتابة والتأثير والإقبال، فللأسف أوافقك الرأي لقد انسحب الشعر باحترام وحزن كبير من ساحة الواقع لمصلحة أشكال أخرى من التعبير، وأهمها على الإطلاق الصورة إن كان يمكننا اعتبارها تعبيرا.! ورغم الأسى الذي يعتري النفس إلا أنك لو تأملت الأحداث في هذا العالم لوجدت أن الدم لغة رخيصة للقتل، والجهات عنصرية الطريق المدقعة، والشرق غيب مغيب، لم يعد يكترث لنفسه ولا يقيّم كينونته إلا حين يُهمّش على مسرح الوجود بدور الضحية السرمدي، ولأن القيم الكبرى تنحّتْ عن منصب الروح فإن الشعر هو القيمة الأجدر بذلك التنحي، الشعر لغة تأملية حرة لا تحتمل وطأة العبث وسطوة اللجام، لغة تحتاج إلى خيوط حريرية كي تصوب الرصاص على مهجة الموت، لغة سيمفونية لا تستوعب زعيق مايسترو يقود فرقة الأشباح إلى مغارة علي بابا، الشعر هو الصوت الذي لا يبوح بشفتيه إلى قبلات الخراب. لذا أصبح صوته خابيا كثيراً إن جاز التعبير. ولكن هذا لا يعني أنه ترك عرشه لغزاة الحبر ومختطفي الهمس وتمتمات الصدى، إنما لازال هناك بقية باقية ممن يؤمن بهم الشعر ليعتنق أقلامهم ويبث في روحها حياة قادمة من جديد أكثر قوة وجمالا، ولأن الكتابة القصصية والرواية والمقال وغيرها أشقاؤه من أبويه (قلم وورقة). فإنها صور تعبيرية تأخذ دورها مع الشرفات، إلى أن تستقر الحالة الأدبية باستقرار اللوحة المتأرجحة أزلياً، هنا تعود المهام لتتوزع على أصحابها بعدالة. ٭ لماذا كان خيارك كتابة قصيدة التفعيلة خاصة وأن قصيدةالنثر تراجعت لصالح قصيدة النثر؟ - صدقني لو كنت نشرت ديواني بشعرنثري لسُئلت عن شعر التفعيلة! هي جدلية مثارة لم تزل، و يبدو أنها ستمتد عمرا آخر... هذا ليس خطأنا أبدا، إنما هو فضولنا في استشراف كل جديد وبديهية فطرية في عقد المقارنة بين مرحلة سابقة ولاحقة، على كل الصعد... ومع هذا فما يكتبنا في مرحلة ما، هو انعكاس لما قرأناه في نفس تلك المرحلة، أو ما تعلمناه واكتسبناه من محيط تواجد فينا زمنا ولم نستطع مبارحته، فتبنانا كي لا نكون لقطاء فوضى ومتسكعي وطن، لأن الكتابة دائما بحاجة إلى وطن (شكل تعبيري) يكون عنوانها البريدي الذي تُعرَفُ به ثانيا... فالشيفرة الأهم من هذا الشكل أو الوطن إن أردت هو عنصر الوجود، الشرط الأول للشعر، ما يعني الهوية الشعرية الخاصة التي تحتاج الى الموهبة واللغة والأسلوب والدلالة والثقافة وكل ما يتطلبه منطق الشعر الذي يصعب منطقته. وكان البحر التفعيلي حاضرا بقوة في أسوار القيامة، ما ورثته من مجتمع غادرته إلى رحاب مغايرة وبعيدة كل البعد عن إرثي الثقافي. كان أقوى من إندماجيتي العصية مع المعاش الراهن والمختلف، لم أتحلَّ بالاستعداد له ولا التأقلم معه، وظننت بداية أن التعصب أشد الوفاء، لكن تغلبَتِ الأمكنةُ، وكان لا بد من خوض غمار التجربة، وإيفاء المراحل حقها الطبيعي بأن أنتمي إلى نسيج متنوع وثري وعميق استوعبني فكان لا بد أن أفي بالدَّيْن لأجل نفسي وإرثي وحاضري، إن المرونة والتأثر الصحي، واستلهام ما يبتكره الآخر هو الوجه الحقيقي للولاء إلى موروثاتنا و أنفسنا بل والتأثير على ذلك الآخر أيضا وهو الحرية الحقة التي نمارسها بالتعرف على ذواتنا واختياراتنا. لذا فإنك تجد خلف أسوار القيامة قصيدة نثرية هي آخر قصيدة نظمتها قبل طباعة الديوان وهي «عثور» وبعدها بدأ الشعر النثري تلقائيا يوطد علاقته بي، ليصبح صديقا لدودا لحميمية الشعر، ومذ ذاك لم أستطع أن أعود أدراجي إلى البحر التفعيلي، ورغم هذا لم يكن بمقدوري إلغاء مرحلة مهمة من الكتابة والحياة في حياتي، فكان لا بد أن تكون أن لا ننكر أنفسنا في عمر مضى يعني أننا ما زلنا قادرين على الكينونة، الآتي هو شعر النثر الذي قتلني بمهارة الحياة، وأنا مغمورة بهذا القتل السعيد. ٭ رغم أنك تكتبين وانت في لندن إلا أن قصائدك جميعها تنضح بالمكان الذي جئت منه. ما هي قيمة الأمكنة عندك؟ - لسنا نحن الذين نغادر أو نعود، إنها الأمكنة هي التي تحل بنا لمّا نهاجرها، وتهاجرنا لما نحل بها، هي فلسفة الأمكنة وجوابك تجده حاضرا في قيامتي «انشطارات»: حدائق عطشى وصحراء جرداء ملأى! فأيهما زمن يشكم الموت ؟ أو فلك يغفر الارتطام؟ ترى: للأماكن فلسفة ما؟ أم أن الحجارة تضجر من نردها.. في الختام؟ - مجردُ أن تتشظى العناصر.... تنشطر الأحجيات .. وينسجم الإنقسام! أوطاننا مستحيلة، لها مذاق النساء، جميلة شهية في الذاكرة، ومريرة شقية على الأرض، ولكننا نحبها، تدمننا تتبعنا إلى أقاصي الجهات لنستدل بغيرها عليها، فكلما أمعنتْ بالرحيل عنا سكنتنا أكثر هي علاقة متوشجة مع المكان الوطن والمكان القلب، كمؤشر زمني على الحنين وتراكم العمر في حقيبة سفر نحط الرحال بمكان ما فيحل علينا شؤمه. وما أن نغادرحتى نتفاءل باستعذابه، معادلة لا تكتمل إلا على هذا النحو لكي تتفاعل العناصر وتتجاذب الأضداد باتساع رقعة المسافة كدلالة على التواصل، فكل بعيد مُشْتَهى هو حاضر، وكل قريب ملموس هو غائب هذه معادلتي مع الأمكنة أن أسافر يعني أنني عثرت على ذاتي، السفر رحلة عثور ولم تكن أبدا رحلة بحث، رحلة لتكريس الحضور، لا للتماهي مع الغياب، وبين السماءات المسافرة والضفاف المشرئبة مركب مجنح وراحلون، رحلات ابن بطوطة كانت رحلات معرفية للاكتشاف باعتباره استدلالاً، رحلة آرثر رامبو إلى الشرق رحلة مغامرة، وتوجه نحو الذات بالدرجة الأولى والألف، رحلة لوركا إلى الموت رحلة إلى الحرية والوجود، رحلة فيرجينيا وولف إلى الماء رحلة نقمة على الهباء، رحلة المتنبي إلى حلب كانت رحيلا باتجاه المجد، و رحلة شهرزاد إلى الحكايا ما هي إلا رحلة نحو العمر، وغيرها، كلهم رحالون بشكل أو بآخر اختاروا طريقة العثور على ما بحثوا عنه، ليس إلا. * هل يمكننا اعتبار الشعر أفضل وسائل التعبير في الأدب العربي، وماذا عن الرواية؟ الإبداع بكل أشكاله هو الغاية الأرقى للتعبير عموما، والتعبيرفي السياق الإبداعي هو البوصلة التي تتجه بالذات نحو العالم، في نفس اللحظة التي تتجه فيها بالعالم نحو ذات المبدع هكذا تتحقق المعادلة الوجودية أو التعبيرية أدبيا من وجهة نظري وإذا سمحت لي هنا أن أوضح أكثر، إن تناولنا على سبيل المثال الرواية أو القصة كسياقات تعبيرية، فإنك ترى أن الراوي يرسم لك خارطة سردية للعمل الأدبي وعليك أن تتبع الطريق لتصل إلى الشخوص والأحداث والزمن والأمكنة وكل متطلبات الحكاية لتتضح معالم الخارطة، حتى لكأنك تعثر على إضاءات أو طرق فرعية كنت سلكتها أو قابلتها أو مرت بك أو حدثت معك، على تفاصيل وجزئيات يمتلكها كل قارئ بطريقة أو بأخرى ولكنها جميعا كجسد واحد هي ما استجمعه الراوي من هذا المحيط، ليصيغه بذاتية تتناوب معه في الرواية. أما الشعر فله خصوصية معاكسة لكنها تلتقي عند غاية واحدة في نهاية الأمر، حيثُ أنَّكَ الْمَعْنِيُّ هنا برسم الخارطة واستجماع الملامح المتناثرة وراء الصياغة، لتعثر على مَعْناكَ الخاص بك عبر هذا النمط الذي يبدو ذاتيا وخاصا بالشاعر وحده، لكنه في حقيقة الأمر يمُتُّ بدلالة ما إلى كل قارئ يعرج على الشعر، وأستثني من هذا طبعا بعض الكتابات الشعرية عند البعض، والتي تعاني من المأزق الذاتي، حيث تتقوقع القصيدة حول الشاعر في ذاتية موغلة ومرتدة لا تسمع إلا صوتها ولا يصغي إليها إلا الصمت والفراغ، لتنعزل به عن مجريات ما لا يتجاوز نفسه إليه..! ذات الشاعر ركيزة لذوات أخرى، وهي بؤرة مضيئة يتمحور حولها ظلام في طور النور. جون بول سارتر يرى أن الإبداع اختيار، وماريو فارغاس يوسا يرى إنه استعداد فطري يتبعه اختيار، يستلزم إرادة تطيل عمره وتصقله بالثقافة والوعي والتجربة. إنه رسم بياني دقيق لمثلث العملية الإبداعية بشكل عام، ولأن الاستعداد الفطري يتجلى بقدرة الخيال على تغيير الواقع الذي يتحرك في خضمه، كنوع من الرفض المبدئي له، فإنها جميعا تأملات تأخذ طابعا متمردا كلما تطور الوعي واتسع الإدراك، وحين يكون الشعر غاية التعبير عن التمرد أو الثورة أو القلق، فإن التعبير لا يعني أنانية البوح والانسلاخ عن الجماعة، إنه بوح يتعاطى مع قواسم مشتركة تطرح بها الذات نفسها شعريا بما تشترك به مع الآخرين، فاللغة مستعارة من محيط يتشاركها معه، والصورة مستوحاة من مواد خام مشتقة من هذا الكون، وحتى الألم فهو شعور وإحساس حي وعام، ولكنك تغير الدلالات وتختص بالرؤيا، وتتأمل العذاب أو الفرح لتصف هذا التأمل، وحينما يقرؤك أحدهم يبهره كيف استطعت الشعر والتعبير عن حالة ما بشكل ما؟! حتى في ذروة الوجدانيات ليست المرضية منها طبعا كالتي ذكرتها سابقا، لا نستطيع حصر التأثير الذي يغمر القارئ لما يتفاعل مع القصيدة، وهذه مظاهر إنسانية صحية طالما أننا ننتمي إلى نفس العالم، ولكن هذا التضامن بين المتلقي والكاتب يكون مختلفا نوعا ما من حيث أن الأدب يسمو بالشعور ويرتقي بالتواصل الإنساني.