مقولة «إن الشعر يولد في العراق، ويترعرع في سورية، ويموت في مصر» هي منطق مقلوب ؛لأن البيئة العربية عامة حاضنة لهذا الفن الأدبي، لكن المشكلة الأكبر أننا ننجب المبدعين والعلماء والمفكرين، ويموتون في حضاناتهم، وهذا نتاج أنظمة سياسية واجتماعية، فرضت الهجرة للعقول لتجد مناخاً يضعها في مواقعها الصحيحة، ولذلك وجدنا من يحصل على فرص الوصول إلى قيادات علمية في مراكز البحوث والشركات والجامعات، وعناصر وصلت إلى أن تكون من كبار المليونيرات في بلد المهجر والحصول على جوائز عالمية.. حاول صدام حسين جلب علماء للعراق، وبناء مدينة خاصة بهم لكن لم يستجب له العديد من الكفاءات العربية، لأن مناخ العمل في نظام سلطوي دكتاتوري لا يتناسب وقدراتهم، ولا زال النزيف مستمراً في بيئة طاردة للعقول، ويكفي أن مجموع الأطباء العرب ممن يعملون في أوروبا وأمريكا، أضعاف من يعملون في الداخل العربي، وعلى العكس، فعندما عاد مهاجرون آخرون من الهند والصين لبلدانهم واستيعاب قدراتهم وكفاءاتهم عادوا لكن بشروط ومناخ ما عاشوه في مهاجرهم، ويعد هذا جزءاً من إضافة علمية واقتصادية هائلة لتلك البلدان.. الوطن العربي ليس في منطقة الظلام من العالم، بحيث يصنف بأنه عنصر بلا عقول، بل إن تاريخنا قدم العديد من العظماء ممن كانوا مرتكز حضارات مختلفة، لكنه في واقع عدم تقدير الكفاءة، بصرف النظر عن مذهبها أو جنسها، والاتكاء على المحسوبيات أضرّ بالوطن العربي كله، والمؤسف أنك تجد في تلك الكفاءات من عرضوا على بلدانهم مشاريع علمية واقتصادية بعوائد هائلة، لكن الأنظمة التي بنت أسس هذه الدول لم تراع قيمة العقل ودوره في التنمية والابتكار.. الوضع الراهن أصبح الأسوأ، فقد عملت قوة الاحتلال الأمريكية للعراق على قتل أو تهجير كفاءاته ضمن مشروع حرمانه من طاقاته في المصانع والمعامل والجامعات، والربيع الجديد هجّر العقول والأموال، وهناك بلدان أخرى لا تقل سوءاً في أوضاعها عن غيرها، حتى إن اللبنانيين في الخارج وهم كفاءات نادرة يفوقون عدد سكان لبنان في داخله، وكذلك السوريين والعراقيين، بينما يعتبر في الدول المتقدمة ولادة كفاءة بمثابة ولادة مشروع كامل، وهذا ما شجع العديد من العقول على البحث عن وطن بديل ، وحتى في المواقف السياسية صدرنا أمراضنا لمهاجرينا، فصاروا أحزاباً كلّ يتحدث بلغة بلده أو فريقه، بدلاً من أن يكونوا نماذج دعائية وخط دفاع عن قضايا أمتهم العربية.. الآن يجري في أوروبا ما يشبه الحرب ضد المسلمين، وهي حالة نشأت من خلال ممارسات خاطئة، سواء من المهاجرين أو دول الإيواء، ولم تقتصر على العرب بل شملت كل الأجناس المسلمة.. الخسائر الفادحة مسلسل عربي طويل، ودون مناخات صحية سيستمر الاستنزاف وهجرة العقول، وهي قضية مزمنة لا حلّ لها في الأفق القريب..