الى أي حد يمكن الإبقاء على طريقة تداول مفهوم التسامح في المجال العربي، تلك الطريقة التي لا تخلو من الهلامية والتمييع وغياب الوضوح، فيما تعيش افضل حالات تداولها عندما تقترن بموضوعة التساهل وبوس اللحى ومحاولة إمرار ما يمكن إمراره بأقل ما يمكن من الخسائر، ترى متى يكون العربي متسامحاً؟ ومتى يكون متشدداً صلب العريكة والمراس؟ وكيف يمكن الوثوق والتفاعل مع هذه المفردة التي تأتي على غير تحديد، بقوام يستند إلى الصخب تارة والصمت المرين تارة أخرى. استدعاء المعنى هاهو التسامح يتم استدعاؤه بطريقة ملفتة،حتى غدت هذه المفردة وكأنها القاسم المشترك لمجمل التداولات الخطابية، حتى باتت تحمل المزيد من المعاني، والتي لا تخلو من التهويمات والتداخلات. بل ان الموجه الداخلي راح يؤدي دوره المباشر في تحديد المعنى المراد، حيث الإصرار على تقديم صورة المتسامح من قبل جميع الأطراف، فيما العالم يقف على كف عفريت تحسباً وخشية من هذا الكم المذهل والهائل من الكراهية. وبقدر ما يتم استخدام هذا المصطلح بإسراف ملفت، فإن السؤال المباشر يبقى فاغراً فاه حول الاخطار المحدقة التي تحيط بالعالم وتجعل من العيش والتفاعل والتبادل بل وحتى محاولة جذب الانفاس وكأنها من التراث الانساني الذي يتم التحسر عليه، وتذكره بمزيد من الاسى والحسرة. في لوثة التكريس الذي يتم توظيبه حول الذات والآخر، والشرق والغرب، والاحتدامات التي تخلفها الامتثالات الدينية والتصنيفات العرقية والتوزعات الايديولوجية، يتجلى الانبهار في اقصاه حول هذه المفردة الطلية الرقيقة، تلك التي تتوافر على المزيد من الجاذبية والهيام، فيما يكون الدرس متوقفاً حولها، من دون التطلع الدقيق والحصيف من اجل تكريس مجال الدرس حول الاوضاع التي تكون فيها فاعلة قابلة للتوظيف والاشتغال في صلب الفعالية الادراكية والمضمونة، ومن هذا الواقع فإنها تبقى تعاني من تقمصات ارث التأويلات القديمة، من دون الالتفات الى اهمية الافق المعرفي الذي توفره القراءات المتنوعة والمتعددة، التي وقف عليها الآخر. التلحف بالمواقف الحديث عن التسامح يتكرر الى حد الاملال، حتى باتت هذه المفردة تعاني من فقدان التأثير وغدت تخسر المزيد من رصيدها الجماهيري، بعد ان راح الجميع يتنطع بها ويدعي نسبتها اليه. فيما يكون السياق الثقافي والحاضن المعرفي بمثابة المعيار الذي يتم من خلاله تقنين طريقة النظر حول هذه المفردة، تلك التي تبقى تعاني من الاعاقة الوظيفية، هذا بحساب الوقوف عليها باعتبارها علامة لغوية تنتمي الى سياق ثقافي له قيمة الخاصة. بل ان الوعي المقلوب سرعان ما يتبدا حاضراً وبكل قوة، عندما تكون المواجهة المباشرة مع الآخر، حيث يتم استدعاء هذه المفردة، من اجل تثبيت معالم الفرادة والخصوصية واحقاق الحق ومحاولة تكريس الموقف الايجابي وتثبيته لصالح الطرف الذي يقوم بعملية المواجهة. من واقع الخلافات والاحتدامات التي تعصف بالسلام الاجتماعي والكيان البشري، صار يتم استحضار التسامح بوصفه الترياق الشافي لحل الازمات والمواجهات التي لطالما درج عليها بنو البشر، اولئك الذين انخرطوا في تدبيج صداماتهم تبرز اهمية التبادل التجاري الذي مورس من قبل دويلات المدن التجارية الايطالية، في فتح آفاق التعاون والانفتاح على الخبرات والكفاءات الموجودة في المناطق المختلفة من العالم، فقد لعبت التجارة دورها البالغ في تنمية رأس المال، هذا الذي كان بمثابة التمهيد نحو الشروع في توسيع نطاق المجال الحرفي، وصراعاتهم التي لا تعرف التوقف او الهدوء، وبقدر ما تقف البشرية على مقومات التطور والتقدم والنضج العقلي والمعرفي، فإن كم التوحش يتبدى بشكل ملفت، وهذا ما تكشف عنه طبيعة التصاعد المحموم للحروب والاقتتال، الذي بدا فاضحاً خلال القرن العشرين في الحربين العظيمين، او الحروب الفرعية التي تتصاعد هنا او هناك والتطهيرات العرقية والنزعات الطائفية، او حتى التأزمات التي تعاني منها المدن والحواضر الكبرى، حيث مشاكل الهجرة واحزمة الفقر التي تحيط بالمدن، ليكون التفاقم وقد اخذ بعده الاجتماعي والاقتصادي، او افواج المتعلمين المتعطلين الذين باتوا يشكلون هاجساً شديد الحضور في ترسيمات الخطط الحكومية، لا سيما وان النقمة والتبرم والغضب ستكون جاهزة وحاضرة، لتكون بمثابة المعيق والعقبة الكؤود التي تقف في وجه فكرة التسامح، وعلى مختلف المجالات والصعد الداخلية منها والخارجية. كيف يمكن للتسامح ان يتجلى، كفكرة أم مفهوم أم مصطلح، وهل يمكن النظر اليها بوصفها حلا جاهزاً، كما اشار اليها ذات يوم جون لوك «محاولة حول التسامح 1667»، «حول الاختلاف ما بين السلطة الكهنوتية والسلطة المدنية 1674»، والمدى الذي خاض فيه هذا المفهوم لتتم بلورته في فكرة حداثية قوامها الاعتراف بحق المواطن في التعبير عن افكاره الدينية والسياسية في المجال الاجتماعي دون ان يتعرض للعقاب والنبذ والاقصاء، ما دام لا يستخدم العنف في فرض عقائده او آرائه على الآخرين او محاربة معارضيه. وهكذا تكون التجليات الداخلية للمضمون وقد اخذت بعدها الداخلي في المجال الغربي، حيث التنامي الذي تجسد في الحل العقلاني لمشكلة الخلافات المباشرة التي تصدرت العلاقات داخل المؤسسة الدينية الغربية، لا سيما بعد المواجهات والصدامات التي تبدت فيما بين الكاثوليك البروتستانت، حتى كان التنامي الذي شهده العقل الليبرالي الغربي، وعبر المزيد من التضحيات والفقد والخذلان والهزائم والنكسات والانفراجات والنجاحات، حتى تبلور بشكله الراهن، ليأخذ بعده السياسي والعرقي والاجتماعي والثقافي.