لا أؤمن بالحظ، مع أن حظي، كإنسان وكاتب، كان جيداً على الدوام، وفي وسعي، الآن، أن أقول للحياة: «شكراً، فقد أكرمتني بأكثر مما استحق!» إلا أن المصالحة مع الحياة، تبقى شيئاً آخر، يتعدى شخصي إلى غيري، فقد أصالح الحياة لأنها كانت طيبة، مؤاتية معي، وأبقى، في الوقت نفسه، على غير صلح معها، ما دامت غير طيبة، غير مؤاتية، بالنسبة للفقراء الذين قست عليهم اجتماعياً، وستبقى كذلك إلى أن تتحقق العدالة الاجتماعية، وتنعم جميع الأوطان، وجميع الشعوب، بالاستقلال وبانتفاء القمع والعدوان. هكذا أبقى منطقياً مع نفسي، أميناً على مبدئي، جديراً بالقلم الذي أخط به حروفي، وفياً للكلمة التي كانت بدءاً وستبقى ختاماً، وشرف هذه الكلمة التي فيها حد الحد: مع الخير أم مع الشر هي، ولا بد، أصلاً، إلا أن تكون مع الخير، طالما فيه، وحده، الصدق، والجمال، والحق، ولا قيمة لغير ذلك، فالإبداع، لكي يكون إبداعاً، لا بد أن يكون صادقاً، ودون ذلك يكون زوراً وتزويراً، زوراً في شهادته، وتزويراً في حقائقه، ساقطاً في المآل مهما تزوّق وتزخرف، وهذا، كما أحسب، من بدهيات بقاء الأدب والفن، ويعرفه، أو يجب أن يعرفه، كل الأدباء والفنانين في العالم. منطلقاً من هذا الوعي، والإيمان، والثبات عليهما، أرى إلى القرن العشرين دون أن أرميه بحجر، ودون أن أرشقه بعطر، فقد كان قرناً مجيداً في أوله، سافلاً في آخره، وما بين هاتين النقطتين لمسيل الزمن، وبالكفاح الشاق والمرير، حققت البشرية تقدماً، وارتكبت أخطاء، وسجل التاريخ لها صفحات بيضاء وأخرى سوداء، والتاريخ، في الحالين، غير ملوم، لأنه كاتب عدول، وله من طبيعة البشر طبيعة المكر، وقد مكر، وانحرف، واعوج، وهذه مسيرته دائماً، اسنجاماً مع جدلية أشياء الوجود، إنما كانت له، مع هذه الانحرافات، استقامة أيضاً، والنقلة إلى أمام لا تتم بغير الخطين: المستقيم والأعوج، ويحسن بنا، على أساس العلم، في عيشنا والكفاح، أن نتعلم دروس التاريخ، فلا نجزع إذا أعوج، ولا نكسر إذا استقام، ولا نخاف إذا ما تعاور الخطان، ما دامت النقلة بهما تتم، وكل نقلة في التاريخ خطوة لصالح التقدم، إلى أن نبلغ الغاية، فننتقل منها إلى غاية أوفى، أعلى، أرقى، لا تخلو، بدورها، من شرط الجدلية بين انحراف واستقامة. إن الشجاعة ليست مطلقة، وحتى في جنونها ثمة خوف، وكي نكون في الشجعان يكفي أن نصمد للخوف، وتلك هي المسألة، ففي الصمود للخوف انتصار عليه، وقد انتصرت البشرية، في صمودها وغلابها خلال القرن العشرين، فلماذا لا تنتصر، إذا ما كانت على اتساق وسياق التاريخ، في القرن الواحد والعشرين؟ ولماذا، فلسفياً، لا نتعامل مع ترابط الأشياء، فنقصر نظرتنا على الجزء ونترك الكل؟ وتأسيساً بأي حق لا نتفحص عيوبنا، وتالياً نعترف بها، وهي السبب في تردي الوضع العربي منذ منتصف قرننا هذا؟ ولئن كنا في المراوحين مكاننا في منطقة من عالمنا، فكيف نسحب هذه المراوحة على كل المناطق؟ هذه أسئلة للتأمل، والتأمل باب مشرع للتفكير، للمراجعة، للتقويم، للفرز بين الخطأ والصواب، ومثل هذه العملية التأملية ضرورية الآن، أكثر من أي وقت مضى، فنحن، من حيث الزمن، في ظرف لم نجد انفسنا فيه منذ مئة عام، وفي هذا الظرف تتكاثر التعميمات، وتتضارب الآراء، وتكشّر حسابات المستقبل عن نيوبها، ويتداخل التفاؤل بالتشاؤم، وتغيم الرؤى، ويأخذ الجزع من تخلفنا التكنولوجي، في فورة المعلوماتية الراهنة والمتعاظمة، حتى يلقي بنا في بئر اليأس الذي لانرى معه حتى بصيص الضوء في آخر النفق! يقولون، مثلاً، إن معدل زيادة السكان مختلف عن أي معدل سبقه، ففي أفريقيا السوداء، يزيد عدد السكان في المدن الكبرى بنسبة 10٪ كل سنة، ومعظم الدول الزراعية ينشئ مدناً ضخمة لاستيعاب تكاثر النسل والهجرة من الريف، والقاهرة، كعاصمة عربية، تزيد ألف ساكن جديد كل يوم فإلى أين؟ وما هو الحل؟ وكيف نواجه العولمة؟ وما مصير اقتصاد السوق لدينا؟ وماذا نفعل أمام تفرد أميركا بالهيمنة على العالم؟ إنني لست بعالم في كل هذه المسائل، لكنني أعرف أن ثمة من يشدنا إلى وراء من أرجلنا، وهناك من يضع أسياخ الحديد في دواليب محاولاتنا للتجاوز، فقد انعقد في العام الماضي، أو الذي قبله، موتمر للسكان في القاهرة، فقامت قيامة بعض المتزمتين لمجرد طرح فكرة تحديد النسل، مع أن بلداً نامياً وناهضاً مثل الصين يطبق نظام تحديد النسل بصرامة، وأغرب من هذا أن كاتباً عربياً «تقدمياً»، زعم أننا بحاجة إلى زيادة النسل في مصر وغيرها، كي نتمكن من مواجهة عدوتنا إسرائيل، متناسياً، ببلاهة، أن كثرة أو قلة العدد ليس بشيء، أو ليس هو العنصر الحاسم، أمام انتشار أسلحة التدمير الشامل في المنطقة، وفي تكديسها في إسرائيل حصراً، دون مساءلة أو معاقبة من أميركا، كما تفعل بالعراق وشعبه المريض الجائع! يزعم بريجنسكي، آخذاً جانب الافتراض، أن الثغرة الرئيسية في قوة أميركا الشاملة هي خلو رسالتها من المضمون الثقافي، متجاهلاً المضمون الآخر، ذا النزعة التشميلية، في فرض «ثقافة» أخرى، معادية للإنسان، على العالم، مؤكداً، بصلافة، أن الباب أغلق دون مناقشة بلاده على زعامة الكون، متناسياً مصير الامبراطورية البريطانية أو سواها، التي أصبحت الآن في ذمة الماضي، كي يوهمنا أن قدر العالم، بعد اليوم، أن يخضع لجبروت واشنطن، وكل افرازاته الضارة، خضوعاً لا حراك معه. إن بعض التعميم يورطنا في الخطأ، سواء بالنسبة للماضي أو الحاضر، فالعلمانية التي يُدعى أنها سائدة، أو ستسود، تتجاهل التيارات الأخرى المنافسة، البعيدة عن كل علمانية، ولا بد من أخذها، بحكم وجودها، وفي بعض البلدان العربية انتشارها، بالحسبان، ومهما يكن من شأن كل ما سبق فإن على الكتّاب ألا يخافوا المجابهة، وأن يسعوا كي يكون لنتاجهم الحضور اللازم، واللائق، والمتسع، خارج حدود وطنهم، وما دمنا قد كافحنا في القرن العشرين، وكان لنا حظ المساهمة في عطاءاته الثقافية، فإن علينا أن نكافح في القرن المقبل، وأن نسهم بمثل هذه العطاءات دون إحجام ودون تردد، بل بشجاعة، هي كفاء مع رسالة الكلمة التي لنا شرف حملها. بالنسبة لي، وبكل تواضع، المسألة محسومة: «عصري لا يخيفني، ولست هارباً!» هذا ما قلته، وأكرره، تأكيداً والتزاماً، وما أشك أن هذا هو موقف كل حملة الأقلام من زملائي الأعزاء.