لعل الفرق الجوهري بين الغزل الذي كتبه الشعراء المهجريون من أعضاء الرابطة القلمية في نيويورك (أميركا الشمالية) والغزل الذي كتبه الشعراء المهجريون من أعضاء العصبة الأندلسية في سان باولو بالبرازيل (أميركا الجنوبية) هو أن غزل الأولين كان بوجه عام غزلاً عذرياً أو روحياً تغلب عليه نزعة التأمل والتفلسف في الحب وماهيته، وتغيب عنه صور الشهوة والمشاعر الحسية. وعلى عكس ذلك نجد أن الغزل لدى شعراء العصبة الأندلسية في المهجر الأميركي الجنوبي ينحو منحى أكثر واقعية وإنسانية. فهو غزل بشخص الحبيب وشوق لافح إليه، وفيه كل ما في الغزل المعروف من تشبيب بجمال الحبيب والشكوى من الحرمان الذي يلاقيه المحب، وإذا لم تكن هذه الرؤية رؤية شاملة كل الشمول لشعر المهجر الشمالي والجنوبي، فلا شك أن خطوطها العامة صحيحة. فشعر الحب لدى شعراء الرابطة القلمية هو شعر العفة والتوق الروحي والتأمل الفلسفي، لا شعر العاطفة المتأججة ولواعج القلب والجسد الذي نلمسه لدى شعراء المهجر الأميركي الجنوبي. ويبدو أنه كان الاتجاه الروحي لشعراء الرابطة القلمية دور في إرساء هذا المنحى التأملي أو الفلسفي الذي نشير إليه. فجبران خليل جبران كان رئيساً لهذه الرابطة، كما كان ميخائيل نعيمة سكرتيراً عاماً لها، والاثنان كانا مهمومين بخلاص الروح، عازفين - في الظاهر على الأقل - عن كل ما يدنس الروح والجسد في سعيهما من أجل الخلاص. كان الاثنان يعتنقان الفلسفة الثيوصوفية القادمة من بلاد الهند، ويريان في هذه الدنيا دار عبور إلى تلك الدنيا، الأخرى الخالدة. وقد انعكس كل ذلك في الأدب والشعر الذي كتباه. ففي أدبهما وشعرهما نزعة روحية مستقاة من هذه المفاهيم الغنوصية التي تسربت إليهما من الثقافة التي نهلا منها، أو خضعا لها على مدار سنوات طويلة. درس نعيمة في مدارس دينية ارثوذكسية في الناصرة بفلسطين وفي بولتافا بأوكرانيا قبل أن يغادر بعد ذلك إى الولاياتالمتحدة حيث يلتقي بجبران خليل جبران الذي كان شبيهاً به من حيث الاهتمام بثقافة الروح والخلاص. ومع أنهما، في حياتهما الواقعية في الولاياتالمتحدة، لم يعيشا حياة الرهبان المنقطعين عن ملذات الحياة، بل عاشا كما يعيش أي إنسان آخر، فإنهما عندما كتبا أدباً وشعراً، جاء ما كتباه مؤتلفاً مع النظريات الفلسفية والفكرية التي كانا قد اعتنقاها. ويمكننا أن نتأكد من كل ذلك عندما نقرأ اليوم «المواكب» لجبران، أو «همس الجفون» لنعيمة، حيث الحب ليس هو الحب المعروف الذي يخضع لقوانينه ونواميسه كل الناس، بل هو حب آخر فيه من التأمل والتفلسف أكثر مما فيه من واقع الحياة بوجه عام، ومن واقع حياة المحبين كما يكابدها هؤلاء المحبون، بوجه خاص. والظاهر أن أعضاء الرابطة القلمية الآخرين، مثل أيليا أبو ماضي ونسيب عريضة، تبعا جبران ونعيمة في منحاهما الغزلي هذا، مع أنه لم يُعرف عنهما أنهما كانا يعتنقان نفس المبادئ الروحية التي كان يعتنقها زميلاهما الأرفع منهما رتبةً في التسلسل الهرمي للرابطة. فمن يراجع ديوان أبو ماضي يلفته هذا المنحى التأملي في شعر الحب، وكون المرأة ليست على الدوام تلك المرأة المشتهاة وصاحبة الجسد الجميل الذي يتوق العاشق إلى امتلاكه، بل كائن آخر يدعوه الشاعر إلى الغاب في رحلة مسحورة تختلف عن الرحلة التي يقوم بها العشاق الآخرون: تعالي قبلما تطمر أحلامي الأعاصيرُ فنستيقظ لا فجر ولا خمر ولا كأسُ! وينهج نسيب عريضة النهج نفسه في شعره العاطفي. فهو يخاطب محبوبته ب «يا أخت روحي» ويعاتبها لأنها لم تتعرف إلى ملامحه فيما بعد، ويجد لها عذراً. فقد تغيّر شكله مذ جاء أرض الشقاء وصادفه فيها ما صادفه، ويهتف بعد ذلك: «قد كاد يقضي يقيني، هلا أجبت النداء»؟ لقد كان أبو ماضي مهيّأً أكثر من زملائه في الرابطة القلمية ليكتب غزلاً «طبيعياً» إن جاز التعبير، ولكنه خضع فيما يبدو نفود جبران ونعيمة اللذين طبعا اتجاه الرابطة القلمية الأدبي، والفني والروحي أيضاً، بطابعهما. وهكذا جاء غزل أبو ماضي غزلاً مترفعاً عن الاجتماع بالمرأة ووصالها. فهو يعتبر أمور الحب من الدنايا التي تأبى نفسه النزول إليها: أبت نفسي النزول إلى الدنايا وقلبي أن يميل إلى التصابي فما دانيت أقداح الحميا ولم أهمم بغانية كعاب وما منع الزهادة في أني حديد ناظري غض إهابي وما كان الشباب ليزدهيني لأني ما أمنت على شبابي أضنّ به على الشهوات ضنّي على هند بشعري أو رباب فإذا انتقلنا إلى غزل شعراء العصبة الأندلسية في المهجر الجنوني، صادفنا غزلاً مختلفاً تماماً. فالشاعر يحكي قصة قلبه مع محبوبة من لحم ودم، ويتحدث عن مفاتنها وجمالات جسدها، ويتشوق إليها ويستعطفها على النحو المألوف في الغزل العربي، أو في الغزل عموماً. فها هو الشاعر الياس فرحات يرسم لوحة رائعة لأنثى يتوسل إليها قائلاً: خدّاك في صخبهما جمعا ورد الرياض الغض والغلاّ عيناك غازلتان ما غزلت عين الغزالة في الربيع ضحى فإذا خيوط سناهما نزلت كست القلوب فصفقت فرحا أذناك في ذنبقتان رابهما شعر يحوم كطالب الشمّ أو تبلتا فلّ أصابهما ماء فحّلهما عن الذم نهداك - وأدهشي وقد ظهرا في الحلم لي - فرخان في عشّ خلف الدمقس اللين استترا لا خلف قاسي الطين والقش هل ترفقين بشاعر صب دنفٍ بخمرة فيك ينتعش؟ هل تشترين بقبلة قلبي أواه! كاد يمتيني العطشُ والياس فرحات هو صاحب قصيدة عن «خصلة الشعر» التي أعطته إياها محبوبته وهو يغادر لبنان إلى الخارج: خصلة الشعر التي أعطيتنيها عندما البين دعاني بالنفير لم أزل أتلو سطور الحب فيها وسألتوها إلى اليوم الأخير ولا يختلف غزل الشاعر القروي رشيد سليم الخوري، وهو من عُمُد العصبة الأندلسية، عن غزل فرحات، فهو غزل حسي صارخ. فُتن القروي بجسد المرأة، وجمال الأنثى، حتى بتنا نجد له في التشبيب مثل هذا الشعر: خبّئي هذه المفاتن عنا إنما الصدر مخبأ الأسرار كيف لا تطمع الأكفُ بكنز دافع نفسه إلى النظّار؟ وهو من الشعر الذي سيطوره لاحقاً نزار قباني ويسجل فيه فتوحاً لم يسجلها شاعر عربي من قبل. وهو شعر يختلف في الروح مع شعر جبران في «المواكب»، وهو من نوع «أعطني الناي وغنّي».. وعن شعر نعيمة الذي لا تفارق هواجس الروح والمصير الإنساني، من نوع ما يقول في «همس الجنون»: أن السرّ الذي استترا بروحك منذ ما خطرا فصوّر من ترى بشرا فهات يدا وهاك يدي على رغدٍ، على نكدٍ وقولي للأولى جهلوا معا كنا من الأزل معا نبقى إلى الأبد طبعاً هناك استثناءات كثيرة على القاعدة التي أشرنا إليها. فليس كل شعر المهجر الأميركي الشمالي شعراً يتسم بالعفة أو بالعذرية أو بالنزعة الروحية. فالقصائد التي كتبها نعيمة بالأنكليزية ثم نقلها إلى العربية، (وهي تؤلف القسم الأخير من «همس الجفون») قصائد حسية صارخة، وهناك شعراء آخرون من أعضاء الرابطة القلمي كرشيد أبوب، لا روحانية البتة في غزلهم. ومن جهة أخرى نجد غزلاً عفيفاً أيضاً في شعر المهجر الأميركي الجنوبي سواء لدى القروي أو لدى سواه. ولكن الملاحظة التي أشرنا إليها هي في خطوطها العامة صحيحة.