ستسعفنا الكثير من الفقرات في رواية عز الدين شكري " غرفة العناية المركزة " دار الشروق القاهرة، في تلخيص خطابها، ولكننا سنخرج منها دون التوصل إلى ما هو أكثر أهمية، وهو بوصلة السرد التي جالت يمينا وشمالاً في بناء ملامح الشخصيات أو الفاعلين الأساسيين في روايته. كل شخصية في هذا العمل تروي الواقع المصري كما لو كانت خارجه وداخله في آن، ولكنها تطل على بانورما متداخلة في النسيج المجتمعي ومنطقه وتمثلاته، بل وأيديولوجياته التي ما برحت إلى اليوم في تصارع. هذه الرواية التي وضعت على قائمة البوكر العربية، تحاول التأسيس لخطاب يتنقل بطلاقة بين وجهات النظر، فعدة السرد تتكون من حوارات داخل الوعي الفردي أو البنية الذهنية التي تكمن خلفها طبقات المعاني والمقاصد والأفعال خيرها وشرها. مصر في رواية عز الدين شكري موشكة على الغرق، فكل أبطاله ينتهون من حيث تبدأ رحلتهم إلى الموت، وسيكون التفجير الإرهابي في السفارة المصرية بالخرطوم في التسعينيات، بداية حكايتهم مع الوطن ونهاية الازمة او القرار لهذه الحكاية. الأعداء والأصدقاء يجتمعون في مؤتمر حقوق الإنسان في الخرطوم : رجل الأمن أحمد كمال القنصل في السفارة، وأشرف فهمي الصحافي المرموق، وداليا الشناوي المحامية والممثلة للإخوان المسلمين، ونشأت غالب المحامي القبطي العائد إلى بلده والممثل لمنظمات المجتمع المدني. لعل في عنوان المؤتمر " حقوق الإنسان" عنصر مفارقة واضح، فالشخصيات تصبح في النهاية وجهات نظر، أو هي نماذج تتشكّل سيرتها ومصائرها من الكلام المستتر والظاهر للمعنى المتبّدل لحقوق الإنسان. ومع أن لغة الرواية لا توحي برغبة المؤلف في استدراج القارىء إلى جمال ديباجته، فهي أقرب الى لغة الصحافة، ولا هو راغب في حبكة تقليدية تشد الى ذروة ونهاية مثيرة، ولكنه يشتغل على خلق ما يشبه التشاكل اللفظي في حوارات أو منلوجات أبطاله، والتجاوز على الوحدات النصية عبر أصوات الأبطال التي تتداخل او تتقاطع في مواقفها. انتقال الضمائر في السرد دون تمهيد مسبق، يربك القارىء في البداية، أو يشعره بفقدان البوصلة التي تفرز الشخصيات، ولكن الأصوات في النهاية تجمع ذلك التشظي في بؤرة اللحظات الأخيرة حين يودع الأبطال حياتهم. انها رواية أفكار قدر ما هي رواية تعتمد سيرورة الشخصيات لا سيرورة الحدث، وموت أبطالها لا يعني انتهاء أدوارهم، بل وجودهم غدا أقرب إلى وجود الطحالب التي تسد مجرى النهر، تلك التي يطلق عليها المؤلف ورد النيل، ولعلها تسمية شعبية لما غدا سيرة وطن لا سيرة ذوات متعينة في خطاب محدد. كل الأبطال يرتبطون بشبكة علاقات قديمة، الصحافي أشرف فهمي الذي يدخل السجن عندما كان جامعيا، يلتقي برجل الأمن الذي قتل صديقه، ويدير معه علاقة عمل وتبادل معلومات ضد شبكة الإخوان المسلمين، حيث ينجو من محاولتهم اغتياله، وبدراية زميلته وصديقته في الجامعة داليا الشناوي وهي القيادية والمحامية البارعة التي تدير شبكة علاقات لصالح الإخوان. كما تربطه صداقة مع حبيبها السابق القبطي نشأت غالب، الأكاديمي العائد الى بلده من باريس، والمدافع عنه في قضية الاحتساب التي ترفعها داليا ضد أشرف وصحيفته. داليا مسلمة من عائلة ثرية وأمها أستاذة مشبعّة بثقافة التعالي على المجتمع الشعبي ، ولكن الفاصلة التي تقلب حياة داليا، علاقتها بزميلها نشأت غالب القبطي وهي طالبة بباريس، وحملها منه واجهاضها. هي لا تريد الزواج منه حتى لو غدا مسلما، ولكنها تهرب من حبها العاصف حيث تجد الملاذ مع مجموعة من الطلبة المتدينين في باريس، وتتزوج أحدهم الذي يساعدها على تجاوز أزمتها. تعمد إلى بناء شخصيتها بعد عودتها الى مصر، حيث تتحول نجمة في المحاكم والقنوات التلفزيونية المحلية والعالمية، وتخوض صراعها مع الجماعات العلمانية برفعها قضايا الاحتساب، ولكنها تخوض أيضا صراعا خفيا داخل قيادة الجماعات الإسلامية، فهي ترفض استخدام العنف، رغم ان عنفها يتخذ صيغة التكفير والمنع والمعاقبة. ولكنها تتحرك بحذر بين القيادات الرجالية، وهي المرأة التي تتفوق عليهم بخلفيتها العلمية، ولا تستطيع التفريط بثقتهم ومساندتهم. والحق أن جدل الرواية لا يقوم فقط على الصراع بين الشخصيات نفسها لاحتلال الحيز المكاني، وبأي ثمن، بل المنقلب الثاني يتحدد ببناء الذات الفردية التي تتلمس قدرتها على عبور الخطوط الحمراء كي تكسب معركتها مع الحياة. فأشرف فهمي يبدأ شبابه صحافيا عصاميا، ولكنه يكتشف أن كل مواهبه تذهب هباءً إذا لم يشق طريقه وبتصميم إلى الأعلى رئيسا لتحرير الجريدة التي طُرد منها، ليقيم مملكته الصحافية قافزا فوق كل الحواجز، بما فيها حواجز السلطة والتمويل. ويدرك المقدم أحمد كمال خيبته وهو ضابط شاب على خطوط النار في حرب أكتوبر، حين تحوّل النصر إلى هزيمة، فينخرط في جهاز الأمن طاردا خواء الذات بسطوة يستشعرها في كل مكان. نشأت غالب الذي يترك كل امتيازاته كأكاديمي مرموق في السوربون، ليعود يدفعه الحنين إلى بلده، فيكتشف غربته في هذا الوطن الذي لا دواء لأدوائه. فينخرط في فعاليات الدفاع عن الناس عبر منظمات المجتمع المدني. شخصيته المسالمة تقف بين أمه الفرنسية ووالده المصري المتعلم في فرنسا أيضا، أي انه حلقة الوصل بين الخارج والداخل، ولكنه يصطدم بشروط الممولين الغربيين لمنظمته، فيحاول تجاهل حرجه وهو الذي يرى كل يوم حفرة وسط الشارع تعبرها السيارات منذ أربعين عاما دون أن تردم. وهكذا تصبح كل شخصية ممثلة لفكرة الصراع والتطاحن داخل المجتمع المصري، التطاحن بين الذوات وبينها وبين الخارج. ميزة الحوارية في الرواية، سنجدها بلا شك، ولكنها ليست كما أدركها باختين، اي أن تعدد أصواتها لا يمنحنا شعورا باختلاف الأساليب أو تنوعها، ولكن هذا التعدد يبرز في ثبات الشخصيات او النماذج وتغيّر خطاباتها، وهذا يلغي أحادية القول في تقديمها. انها أقرب إلى مسرح تتصاعد فيه التراجيديا كلما زاد التوتر في بناء النموذج. السارد وباختلاف الضمائر، يعبر المراحل التاريخية من خلال برنامج التحول في شخصياته، فهي تجيب على أسئلة حارقة في مصر اليوم: ما الذي حدث وكيف انقلبت مصر على نفسها لتغدو على ما هي عليه اليوم؟ ورد النيل الذي يتكاثر ليسد مجرى النهر في الرواية، هو أكبر من طحالب لا ترغب الحكومة إزالتها، فهو يعرّش في النفوس التي تكونت خميرة خطاباتها من خيبات جيلين في مصر وسواها من البلدان العربية.