كل الناس يمرون بمواقف وتجارب مؤثرة.. لكن الشعراء يمتازون بالقدرة على تصوير تلك المواقف والتجارب.. وتقديمها للأجيال التالية بشكل فني قابل للحفظ والاعتبار والإمتاع أيضاً.. قديماً أحس أميّة بن الصلت بثقل المنّة فقال: (لنقل الصخر من قمم الجبال أحب إليَّ من منن الرجال) وينسب للإمام الشافعي في اغتنام الفرص الطيبة: إذا هبّت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقة سكون وإن درتّ نياقك فاحتلبها فما تدري الفصيل لمن يكون؟ وقد حدد البستي اليوم الجميل في حياته وميزه عن اليوم الضائع، فقال: «دعوني وأمري واختياري فإنني عليم بما أخفي وأظهر من أمري إذا مر بي يوم ولم اصطنع يداً ولم استفد علماً فما ذاك من عمري» فهو يحتفل بالحياة عن طريق الارتياد والاكتشاف والازدياد علماً، وعن طريق صنع المعروف الذي مذاقه حلو ووجهه جميل، فإذا مر يوم لم يفعل فيه معروفاً لغيره أو لنفسه، ولم يستفد منه علماً يكتسبه فذلك يوم ضائع لا يعده من عمره، فالعمر ليس بالسنين ولا بالطول.. * وأبوفراس الحمداني يقول: ما العمر ما طالت به الدهور العمر ما تم به السرور * ويقول الشاعر محمد بن شريف الجبرتي يروي تجربته مع ذئب همّ به بليل، في واد مشهور بالذئاب، وكان الشاعر وحده لا يصحبه غير شجاعته وسكينه: «أنا هيّض عليه طرقة لمت بنا سرحان وأنا مع درب حجر اللي يعرفون العرب ذيبه شبكنا واشتبكنا في الخلا ما حولنا عربان وكل ما يعرف اللي يبي يخطيه ويصيبه قلت: (ألا يا ذيب قدمك ذيب مجرد الذرعان وانا ماني بطفل مع الليل تسري به) معي سكين غداري لها جوف الجراب لسان معبيها لسبع الليل إذا ما الله بلاني به ترى مالك عشا باطرافنا يا ذيب يا سرحان لكنك دوَّر اللي تقدره يا ذيب وتجيبه وانا واياه ظلينا كما الفرسان في الميدان عيونه في عراقيبي وعيوني في عراقيبه نبيع ونشتري حتى وصلنا قرية العربان بعد شاف العرب عوّد وذاك الذيب عهدي به) (وقوله: نبيع ونشتري: كناية عن تردد كل منهما في الهجوم على الآخر، فالكل متربص حذر).. وهي تجربة عبر عنها بشكل فني.. ولأبي تمام: «ما ابيض وجه المرء في أوجه العلا حتى يسود وجهه في البيد» والبيد هي الصحراء كما هو معروف، أي ان الإنسان لا ينجح ويسود إلا بالكد والسفر والمثابرة والحزم والعزم.. ومثله قول المعري: وما يسبح الإنسان في لج غمرة من العز إلا بعد خوض الشدائد ونحوه قول الشاعر الشعبي عبدالله بن رمضان: «المرجله كالعد صعب المواريد ما يرده اللي حبل مدلاه بايد ما يحتمل للمرجله كود صنديد له في طرايقها فنون وعوايد بالقلب والهمه وبالراي والإيد يهون في وجه الفتى كل كايد» * * ولشاعرنا الكبير محمد السديري: لا خاب ظني بالرفيق الموالي مالي مشاريه على نايد الناس هذا حين تبدو الصداقة كالسراب يحسبه الظمآن ماءً فالعيد والصديق أقل شيء يجرحهما.. وشرهة الصديق على الصديق.. كبيرة.. بكبر الصداقة التي بناها.. أو كان يظن أنه بناها.. اتق غضبة الحليم وشرهة الصديق.. * * * والصداقة لا تبنى على مصالح أبداً.. الصداقة في براءة الزهرة.. ولكن الصديق حين يقع في مصيبة حقيقية فإن صديقه كأنما وقعت له تلك المصيبة شخصياً، وإن لم يستنجد به الصديق، إنه يندفع إلى عمل ما يجب فوراً ويتألم إن لم يفعل.. يتألم مدى عمره إذا كان الموقف أليماً جداً وتخلى عن صديقه.. وقد لا يتألم إلا بعد أن يكبر - إن كان وقتها صغيراً في السن لا يعرف الأمور - وقد لا يتألم إلا بعد فراق الصديق أو موته.. الرجل موقف.. الإنسان موقف.. ولكن الأيام حبلى وتلد المفاجآت، والمراجل تحضر وتغيب.. والندم.. واتباع السيئة الحسنة.. يخفف الآلام.. والإنسان نفسه حالات.. وعجائب!!