في أحد الصباحات الشتوية قارسة البرودة خرجتُ مبكراً لموعد مُسبق. كان الصباح كابيا رماديا ثقيل الهواء. الشوارع والطرقات شبه خالية بسبب إجازة نهاية الأسبوع. لا يوجد من يسير عدا عُمال التنظيف ومن بكّر في الخروج طلباً للرزق. هناك شريحتان من العُمال؛ الأولى تلك التي تعمل تحت مظلّة شركة أو مؤسسة سعودية، والأخرى تلك المفلوتة تجمع ما تيّسر بالبحث اليومي عن عمل قد تجده أو لا تجده. الشريحة الأولى يمكن تنظيمها وإخضاعها للضوابط والتعليمات المتعلقة بالعمل والعُمال. أما الشريحة الثانية فلا يمكن تطبيق أي ضابط عليها بسبب فلتانها وتسيبها وعدم نظامية وجودها في سوق العمل. رأيتُ في ذاك الصباح المتثلّج مجموعة من عُمال يركبون في حوض سيارة نصف نقل لا غطاء عليها ولا مقاعد. يعصف عليهم هواء شديد البرودة فانكمشوا على أنفسهم وتراصوا حذو المنكب بالمنكب طلباً لدفء صعب المنال. سائق السيارة وحيداً في كابينة القيادة مستمتعا بعزلة دافئة حالمة. العمال المساكين يتمايلون ذات اليمين وذات الشمال تبعاً لاهتزاز مركبتهم. مخالفة إركابهم في حوض السيارة مع عدم توفير الحماية لهم دليل على استمراء ذلك الفعل وتكراره أمام أعين الضابط النظامي الذي إن تكرّم وخرج في مثل هذا الوقت فهو دون ريب يقبع في دوريته وكأن ما يجري لا يعنيه. ذهبتُ لشأني ومازالت صورة العُمال بوضعهم الظالم لم تبارح ذهني. اقتنيت جريدة الرياض من إحدى البقالات وتصفحتها سريعا، وللمصادفة وجدت العنوان التالي في الملحق الاقتصادي ("العمل" تُشدد على حماية العُمال من الأحوال الجويّة وأخطار المهنة)...! ضحكتُ في سرّي؛ وشرّ البليّة ما يُضحك. يُضحك من سياق الخبر الذي يوضح بأن وزارة العمل "شدّدت" على قيام القطاع الخاص وأصحاب الأعمال بحماية عمالتهم عند سوء الأحوال الجويّة وضرورة قيام صاحب العمل باتخاذ الاحتياطات اللازمة لحماية العمال من الأخطار التي تنتج عن الأحوال الجوية السيئة في موقع العمل وأكدت (الوزارة) على عمال المُنشأة التقدم لمكتب العمل المختص بالمنطقة بإيقاف العمل خلال ساعات من اليوم إذا كان استمرارهم خلالها يضر بصحتهم. الله.. هل هناك ما هو أجمل من هذا الكلام (النظري)؟ ألقيت الجريدة جانباً وواصلت سيري فإذا بمجموعة من عُمال النظافة قد تكوموا على نار أوقدوها طلباً لدفء لن يوفره لهم كلام الوزارة البارد.