كتبتُ عن الصورة الذهنية للمسؤول الحكومي، وأنه عند البعض فاسد بداية، ومع يقيني التام بأن التعميم غير منطقي كما أن النظر للمسؤول على أنه من كائن مختلف أو جاء من كوكب أو بلد آخر يخالف الواقع، ولا يستقيم مع حقيقة أن المسؤول هو أنا وأنت في حدود مسؤولياتنا المختلفة وصلاحياتنا المتعددة. اليوم أعاود الكتابة للمسؤول بمن في ذلك نفسي مذكّرا بأن كلاً منا تختزل في شخصه الحكومة كلها، فالذي يراجعني بمكتبي إذا لم أقابله وأتعامل مع حاجته بمسؤولية وأستوعب ظروفه فإنه بدون شك لن يخرج ناقماً على شخصي وإنما على الدولة كلها خصوصا أولئك البسطاء من الناس الذين يسعون وراء حاجات تقضى بطرق عديدة دون مشقة وصولهم للمسؤول الأول . من الوزير إلى أصغر مسؤول جميعهم يمثلون الدولة وأي تقصير منهم ينعكس مباشرة على الأداء العام وعلى مستوى خدمة المراجعين. ألاحظ موظفين في مستويات دنيا من المسؤولية كيف يتعاملون مع المراجعين من أبراج عاجية، وكأنهم ولدوا ليجلسوا على تلك الكراسي، يأمرون فيسمع المراجعون لهم ويطيعون، ويتلذذ بعضهم بإذلال خلق الله، وقد يضخّمون ذواتهم فتكون تصرفاتهم رصيدا إضافيا من النقمة على مؤسسات الدولة. استوقفتني معلومة مؤكدة أن بعض الطلاب والطالبات أمضوا في جامعاتهم 4 سنوات لم يروا فيها عميد كليتهم، أو عميدة كليتهن! وأتذكر عندما كنتٌ في المجال الأكاديمي أن من شروط عميد القبول والتسجيل أن يكون "أقشر"، ويشتكي مواطنون مرّ الشكوى من تسلط بعض المسؤولين وتعقيدهم أمور المراجعين ليس لأسباب نظامية ولكن لأن ذلك المسؤول يتوقع أنه يصنع بسوء تعامله سمعة، ويبني هيبة له واحتراماً؛ وكأنه لايستطيع تطبيق النظام والمحافظة عليه بوجه طلق. أضحك كثيراً، وشر البلية ما يضحك، عندما أجد موظفاً يرتدي ريش طاووس؛ أعرف حينها أنه سخيف وجاهل، وأود لو أصرخ في وجهه بأن الوزير والوكيل ومدير الجامعة وكافة مسؤولي الدولة بمختلف مستويات مسؤولياتهم إنما هم في الواقع مستأجَرون خدمةً للمواطن؛ يقضون حاجته وفق النظام. ليس هؤلاء فقط وإنما يدخل في ذلك الطبيب والمعلم وعضو هيئة التدريس، والعميد ورئيس القسم، ومدير المدرسة وكل من يتسلم راتباً نظير عمل؛ لم يولد أحد منهم وقد كتب على جبينه لوحة مميزة تقول بأنه خلق مسؤولًا. كيف تصل للمسؤولين والموظفين حقيقة أنهم خدمٌ للمستفيدين من خدماتهم؟ هل يعرفونها ويتجاهلونها؟ هل يتوقعون أنهم خلقوا أعلى درجة من غيرهم؟ تلك إشكالات نفسية نتمنى أن نتجاوزها، وأن نتجاوز "الرزة" ورسم الذات، وتضخيم المكانة، فتلك أمور لا تكسبك أهمية إن كنت لاتشعر بقيمة نفسك وما تؤديه من عمل، ولن تمنحك الاحترام إذا كنت لست محترماً في نفسك، ولن تضفي عليك هيبة إذا كنت في الأصل فاقداً لها. أعتقد أن وزارة الخدمة المدنية معنية كثيرا بتغيير بيئة العمل وترسيخ قيمه ومثله، فالأمر لم يعد متعلقاً بالثقة فقط وإنما هناك ممارسات مهنية يجب تطبيقها والاحتكام إلى أنظمة وتشريعات تحوكم الممارسة الإدارية، والعمل الجاد والسريع على تعزيز مهارات الاتصال عند المسؤولين بمختلف درجاتهم ومستوياتهم. من الطبيعي أن يؤدي تطرف المسؤول في الانعزال عن الناس وقفل أبوابه عن مطالب المراجعين إلى تطرف في الوسائل لإسماعه الصوت، فلماذا لا يجنب نفسه ومؤسسته والدولة الكثير من المتاعب ببعض التواضع وأداء المسؤولية بما يجب؛ خصوصاً وأن حسن المعاملة لا يحتاج إلى إمكانات؟ فإذا عجز عن ذلك فليترك المجال لغيره. بلادنا تستحق أن تكون أفضل مما هي عليه، وترْك الأمور للصدفة لن يصل بنا إلا إلى المزيد من الدوران حول نفوسنا..