كتبتُ في صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية قبل أكثر من 15 عاما عن قيام الحكومة الأمريكية بملاحقة شبكات بيع وهم الثراء للشباب. فبين الحين والآخر تظهر أشكال جديدة من عمليات الاحتيال وبيع وهم الثراء. السؤال منذ ذلك الحين وهو: هل هناك أي علاقة بين انتشار تجارة الوهم وضعف الوازع الأخلاقي والتحصيل المعرفي؟ قد يبدو الجواب سهلاً بنعم ,ولكن الحقيقة أن تجارة وهم الثراء أصبحت تنطلي حتى على أصحاب التحصيل المعرفي والوازع الأخلاقي. والسبب في ذلك هو تلبس تلك الشبكات بثياب التقى ومظاهر الورع من خلال بوابات العمل الخيري والرعاية والمسؤولية الاجتماعية. عندها يصدق من لا يملك أدوات التقييم والتحري، ويقع في فخ التسويق الوهمي ,ولن يكون أمامه أي طوق للنجاة سوى جلب المزيد من الضحايا ورميهم في قاع حفرة الوهم حتى يخرج متسلقاً عليهم وعلى أشلاء بقية الضحايا إلى السطح. فهناك من يعتقد بأن بيع حلم الثراء السريع يكون أسهل مع من فقد العزيمة وربما الأمل في تحقيق الذات ماليا واجتماعيا. ولا تقتصر هذه الظاهرة على ما يعرف فقط بهرم الثراء, وإنما ظهرت بأشكال مختلفة حول العالم. فهناك من يسميها "الطائرة " أو "لعبة مساعدة الأصدقاء للأصدقاء" أو "شبكة العطاء" أو "المزارعون لمساعدة المزارعين". ومن آخر هذه الأسماء اختراع في ولاية كاليفورنيا باسم "الوعي الربحي" ومثله شبكة الربح والتسويق المباشر. فهناك من يتخذ شعاراً دينياً وراء مشاريع الوهم هذه لاستقطاب الأتباع وابتزازهم. ولكن الجميع يعملون وفق نفس المنهج: المال الجديد الآتي من ضحايا الحاضر يذهب تعويضاً لضحايا الماضي. ولكن أكثر الضحايا يبقون ضحايا لحين سقوط تلك الشبكات في أي لحظة تداهمها السلطات النظامية. وبالرغم من الكثير من التحذيرات والقصص المؤلمة في الكثير من الدول العربية والإسلامية حول ما يسمى بالتسويق الهرمي والشبكي,إلا أننا نجده ينتقل مثل المرض المعدي من بلد لآخر. فعندما أشرت إلى الوازع الديني والأخلاقي والمعرفي كنت أرمي إلى صعوبة انتشار مثل هذه الممارسات بين ظهرانينا,وإذا بي أكتشف كم أنا واهم وفي واد آخر. نعم,تجارة الوهم هذه تباع في الرياض وعلى الصبية من السعوديين في مدخل احد الفنادق المنزوية . وعندما تحضر إليهم وتسمع حماس المسوق للبرنامج تجد في نبرته عبارات التلبس بالثقافة الدينية والعادات المحلية من اجل إضفاء الشرعية على مشروعه الوهمي. فحديثه ينصب على فكرة شراء منتج كمفتاح دخول في الشبكة .وبموجب الدخول في الشبكة تبدأ عمليات احتساب الأرباح من خلال جلب الضحايا من الأصدقاء. وهو نوع من أكل أموال الناس بالباطل,وأي ناس هؤلاء؟إنه بيع من يثق فيك إلى من لا ثقة فيه!فربحك على حساب محبيك. المشاكل التي صاحبت تجارة الوهم الهرمي والشبكي منذ عقود وهي تنخر في مجتمعات عربية وإسلامية وقاومتها بشدة بعد سقوط الكثير من الضحايا مثل السودان ومصر وسورية وأفغانستان وسيرلانكا وغيرها كثير. ولو عدنا لبعض البرامج التلفزيونية الدينية عندنا لوجدنا بعض الأسئلة قد طرح على المشايخ حول الحكم في مثل هذه التجارة. والأغلب منهم لم يجزها والبعض أجاز مفاهيم البيع والشراء بسبب طريقة التدليس في عرض السؤال. ولذا أقول كيف تخطت شركات الوهم هذه حواجز القيم والعلم الشرعي وكذلك الأنظمة الرقابية لنكتشف أن بيع الوهم أصبح شرعيا، وفي بعض الأحيان على صبية اقل من السن القانونية وبحجة موافقة ولي الأمر بمنح الولد المال للدخول في الشبكة؟! إنها بداية لنوع جديد من الفساد الذي سيجعل المجتمع مفتوحا لكل أنواع تجارة الوهم والتستر. أعيد ما قلت قبل أعوام بأن:الخطورة في هذا الموضوع تتمثل في أن أكثرية المشاركين في هذه اللعبة المزيفة ليسوا من السذج، فقد بدأت هذه الألعاب تستقطب كثيراً من المتعلمين والمحامين والأطباء والمهندسين، فإذا كانت أخلاق هذه الفئات المسؤولة اجتماعياً أصبحت تهدف إلى الربح السريع عن طريق الوهم، فما الذي يمنعها من استغلال مواقعها الاجتماعية من اجل الإضرار بالمجتمع لتحقيق مصالحها؟ والأخطر من ذلك هو انجراف الشباب وراء سراب الربح السريع ما يسبب شللا في التفكير الإبداعي الشبابي عن العمل والكسب عبر القنوات المشروعة والتي أتاحها المشرع تعمل الدولة على تيسيرها للباحثين عن الكسب الحلال و ليس أكل أموال الناس والمجتمع بالباطل. فمتى نتوقع صدور فتوى بالضرر وردع بالنظام حتى لا يستفحل الأمر ونرى أوراق اليانصيب في البقالات مع كروت الاتصالات؟