يقول علماء الاتصال إن الإعلامي أو مرسل الرسالة الإعلامية يمتلك فقط خمس ثوانٍ لجذب انتباه المشاهد أو المستمع , بعد هذه الثواني الخمس ونظرا للكثافة المعلوماتية حولنا , سيشيح المتلقي عن المادة المقدمة ويبتعد وينتقل إلى مادة أخرى قد تكون أكثر تشويقا , أو اقترابا من قضاياه ,أو أنها ببساطة أسهل وأقل تعقيدا . على الرغم من هذا الشرط الصارم الذي يترصد بالإعلاميين إلا أن الفيلم الوثائقي (كوني والأطفال المختفين) الذي بث على اليوتيوب استطاع على الرغم من مدته الطويلة التي تمتد إلى 27 دقيقة أن يحصل على مايقارب 60 مليون مشاهد عبر العالم , وذلك بعد أيام فقط من بثه على اليوتيوب . والفيلم يدور حول شخصية السفاح الأوغندي (كوني) والذي يقع على رأس قائمة المطلوبين في محكمة العدل الدولية كمجرم حرب , فهو عبر مليشياته المسلحة ومنذ فترة تفوق العشرين عاما يقوم بخطف الأطفال في أوغندا ويسترقهم مقابل طعامهم ومآواهم لينخرطوا في مليشياته التي مازالت تمارس أبشع الجرائم هناك , والتي عجز الجيش النظامي عن السيطرة عليها . الفيلم قام بإعداده صحفي أمريكي اسمه (جيسن راسل) الذي بدوره تبنى حملة عالمية ضد كوني , استقطب بها عبر مواقع التواصل الاجتماعي أعدادا هائلة من الشباب والمشاهير الذين تبنوا القضية , وأسهموا في تسليط الضوء على بشاعة الفظائع التي ترتكب هناك , وفي نفس الوقت قام بحملة تبرعات استطاع من خلالها أن يجمع أموالا وفرت مأوى ومسكنا ووسائل اتصال , وأهم من هذا كله مدارس للأطفال تحميهم من الانخراط في مليشيا كوني . كان هدف الفيلم هو جعل كوني معروفاً للعالم , وبالتالي تكثيف الأضواء حوله بالشكل الذي يمكّن العدالة الدولية من القبض عليه خلال عام 2012 . رسالة الفيلم واضحة وأهدافه محددة ,واستطاع أن يستقطب الملايين المتعاطفة والمشاركة والمتبرعة على موقع اليوتيوب.. وتذكرتُ عندها أنه في نفس هذه اللحظة هناك العشرات من الأطفال السوريين الذين أمسوا وهم هدف لنيران مليشيات النظام السوري , وأن الأمهات الثكالى في سورية يتزايد أعدادهن اليوم إثر الآخر , وأن هناك مئات الجرحى والمصابين والمنتهكين والمعطوبين في حمص وإدلب ودرعا دون أن تقدم لهم أبسط سبل العلاج بما تحتمه القوانين الدولية لحقوق الإنسان أثناء فترة الحروب . وتذكرت أن العالم برمته عجز عن أن يصنع ممرات آمنة لمنظمات الإغاثة لتصل إلى المنكوبين هناك , وأن النظام السوري قد أنشب أظافره في لبنان إلى الدرجة التي جعلت الحكومة اللبنانية تتعامى وتتجاهل أن هناك آلاف اللاجئين السوريين الذين هم بحاجة إلى طعام ومأوى . العالم الذي يلوح بقيم العدالة والحرية يحذر من مسّ مصالحه، ويضع أمن إسرائيل على رأس اهتماماته , ومايقدم في سورية الآن هو عبارة عن مسكنات وذر الرماد في العيون آخرها تصريحات (كوفي عنان) المستفزة الكئيبة مؤخرا . الحملة التي قادها الصحفي (جيسن راسل) وفريقه ضد (كوني) أدت إلى تكوين محاور ضغط استطاعت أن تقنع الكونجرس بإرسال جنود أمريكان عام 2011 إلى أوغندا لدعم الجيش هناك تقنياً في الوصول إلى مجرم الحرب , وكل هذا تم من خلال توظيف الإعلام وتقنياته في عولمة هذه القضية وجلبها بقوة إلى الرأي العام العالمي . ولكن ماذا عن الدم السوري المهدر كل يوم على ضفاف العاصي وبردى ؟ ماذا عن الجرائم ضد الإنسانية في سورية التي أعلنت عنها الأممالمتحدة ؟ هل هناك حملة إنسانية جادة ومسؤولة تستطيع أن تدفع بهذه الجرائم إلى واجهة المشهد السياسي , وتستوقفنا أمام ضمائرنا ومسؤوليتنا الإنسانية؟