قال وهو في غاية الألم: ما سعمتُ لبعضهم حواراً أو قرأت حديثاً إلا وأيقنت أن الثقافة لدينا تسير بالمقلوب، وأن ذيل الثقافة صار رأسها.. عجيب أمر بعضهم ينفخ نفسه، ويرشح نفسه، بنفسه، ويتحدث بفخر واعتزاز عما حققته رحلته الفضائية في عالم الثقافة، والفكر.. حتى أصبح يظن نفسه مالئ الدنيا وشاغل الناس، بكل ما يقول ويفعل ورغم أنني أزداد عجباً به.. نعم عجباً به، فهو أجرأ من عنترة بن شداد، وأشجع من أبوزيد الهلالي، وذلك بمقدرته العجيبة على عدم الخجل أو الاستحياء.. وهذه شجاعة وجرأة تفوقان شجاعة أولئك المغاوير في ساحات الوغى والطراد.. فالرجل قد دخل الساحة بهذا القلب الشجاع، واللسان الشجاع دون أن تطرف له عين، أو يخفق له قلب.. وهو يكيل هذا المديح لنفسه مستخفاً بعقول، وذكاء الناس أجمعين..! أليست هذه شجاعة..؟ بلى والله.. وإلا فإن من هو مثله، وعلى شاكلته لا يحق له أن يسير في ساحات الأدب وميادينه إلا وهو مطأطئ الرأس منخفض البصر إذ إنه لا في عير الثقافة ولا في نفيرها.. ولكن يبدو لا بل من المؤكد أن «البغاث بأرض ثقافتنا تستنسر كما يقول المثل» والبغاث حفظكم الله هي ضعاف الطير كالحمر، والصعو، ودجاج الماء.. وهذه في زمننا الثقافي هذا أصبحت نسوراً لها أجنحة قوية ومناقير جارحة، ومخالب معقوفة.. وعلى ذكر العقف فأشهد أن الرجل معقوفاً في حديثه، وثقافته، وكل هيئته المعرفية.. فلم يكن مستقيماً ولا مرتكزاً وإنما هو ذلك المعقوف المعوج.. وما أكثر عوجه وهوجه وطيشه، فهو يثور ويقب لأتفه الأسباب، فإذا خالفته فأنت عدوه، وإذا حاورته فيجب أن تكون معه.. وإذا ناقشته فعليك أن تداريه كما تداري الطفل وإلا سينالك منه ما ينالك من الطفل من عياط، وهياط.. ومع كل هذه المصائب والكوارث فهو مفكر، ومؤرخ، وشاعر، وفقيه، وروائي وكل ما يخطر على البال من فنون العلم والإبداع فهو يمتلك ناصيتها ويجول في ميدانها بكل شجاعة وجرأة وحماقة وإسفاف.. ألم أقل لكم إنه أشجع من عنترة، ومن أبو زيد، ومن كل فرسان البسيطة لأنه يلبس درع التفاهة الذي يظنه لا يخترق، وهو فعلاً درع لا يخترق، فمن سينازل التافه والمأفون في مثل هذه الساحة المليئة بالمزالق والحمأ والطين؟! إن الساحة الثقافية لم تعد حلبة صراع لمفتولي السواعد وشديدي القبضات، والعضلات، لم تعد ساحة مهيبة عليها جلال الثقافة الحفة ووقارها.. بل أصبحت بكل أسف ساحة يجوز أن يدخلها المعاتيه والمجاذيب، ومحترفي الثرثرة، وقصار الموهبة، ولا يخرجون منها إلا بالشهادات والنياشين التي تدل على نبوغهم وعبقريتهم.. ثم تابع إنه شيء محزن أن تصاب الثقافة بهذا الداء، وأن تبتلى بكل هذا الابتلاء، وأن يجلد المثقف الحقيقي بهذه السياط المفتولة من الجهل والأمية، والرقاعة، وأن تتحول المنتديات الثقافية إلى مستودعات وحظائر يحشر فيها الأصم، والأبكم، والشعبي، والأمي مع الأصيل الفصيح، وأن تختلط فيها الرؤى ويضيع العبقري فيها في غبار، وعجاج الهجين.. ووالله ما رأيت ولا سمعت مثل أحاديث ذلك المعتوه إلا وانتابني حزن، وتغشتني كآبة ووجل وجزع على ثقافتنا التي تلوكها أفواه الخراف.. وتدوسها سنابك البغال.. ويصفق له الدراويش والمجاذيب.. فبحق الله.. من يحمي ثقافتنا من هذه الموبقات والمحرمات والمعاصي الثقافية؟ واغفر لي صوتي الحاد فجرح الثقافة مؤلم وفظيع.. قلت: الحق معك.. وكان الله في عون الثقافة.