كل عناصر المأساة وقسوة الإنسان والطبيعة متوفرة هنا في (جالانغي) الواقعة على ضفاف نهر (بادما) الذي يفصل بين الهند وبنغلاديش في هذه المنطقة ويمكنك أن ترى بالعين المجردة أراضي بنغلاديش على الشاطئ الآخر.. فهذه المنطقة ذات الغالبية الإسلامية - والتي كان من المفروض أن تكون جزءا من باكستانالشرقية وبالتالي بنغلاديش الحالية لو لا تغيير الإنجليز خطة التقسيم في آخر لحظات- هي تعاني في وقت واحد من الفقر والجهل وطغيان الطبيعة واستخفاف السلطات بمسؤولياتها إزاء المواطنين.. فالنهر في هذه المنطقة يزحف ويجرف أراضي الفلاحين بصورة بطيئة مطردة منذ أكثر من عشر سنوات ولا يكاد النهر يسطو على قرية حتى ينتقل أهاليها الى أراض مجاورة على شاطئ النهر في الجانب الهندي. وهكذا على مر الزمن أخذ النهر يبتلع قرية بعد أخرى بما فيها أراضيها الزراعية التي هي عماد الاقتصاد المحلي الهزيل هنا. وقد ابتلع النهر حتى بلدة (جالانغي) الصغيرة الى جانب عدد من القرى المجاورة لها. وحتى المناطق التي استوطنها الأهالي الذين فقدوا أراضيهم هي الأخرى مهددة اليوم لأن النهر مستمر في جرف مناطقهم وتغيير مجراه باستمرار لو لم يتم بسرعة إقامة سد واق على طول عشرات الكيلومترات من الشاطئ الغربي للنهر.. وقامت السلطات في البداية بصرف مبالغ زهيدة للمتضررين لكي يقيموا أكواخهم كما أعطت أراضي زراعية لبعض المتضررين الأوائل إلا أن أعداد المتضررين أخذت تتصاعد سنة بعد أخرى حتى وصل حسب تقديرات المتضررين الى نحو 25 ألف شخص وهم يسكنون حاليا بأراضٍ حكومية أو أراضٍ خاصة مهددين دوما بالطرد منها.. وللوصول الى هذه المنطقة توجهنا الى عاصمة ولاية البنغال الغربية (كالكوتا) وقطعنا المسافة بالطائرة من دهلي الى كالكوتا في 90 دقيقة إلا أن المسافة المتبقية من كالكوتا الى مرشد آباد ومنها الى جالانغي - وهي لا تزيد عن مائتي كلم - فقد استغرقت يوما بكامله بقطار بطئ، ولم نصل مدينة مرشد آباد إلا بعد المغرب. وكانت محطة (سيالدا) للسكك الحديدية في كالكوتا والتي انطلقنا منها مثالاً للإهمال والقذارة. وإن كانت شوارع كالكوتا المحطمة وطرقاتها المكسَّرة القذرة وبيوتها العتيقة الكئيبة قد فاجأتنا وحكت ألف حكاية عن الإهمال والتدمير البطئ الذي تتعرض له ولاية البنغال الغربية التي يحكمها الحزب الشيوعي الماركسي منذ 25 سنة إلا أن المفاجأة كانت أكبر حين خرج بنا القطار من منطقة كلكوتا.. فالذي تراه على جانبي الطريق هو الخضرة والمزارع وأشجار الموز والبامبو والنخيل والمانجو والبرك والبحيرات الصغيرة التي يربون فيها الأسماك ولاحظنا أن المزارع مزودة بالكهرباء التي تستخدم لإدارة مضخات الري... حتى يبدو أنه لا توجد شبر أرض جرداء ولكن في الوقت نفسه نرى بيوتا هي أشبه بأكواخ ومعظمها قد بنيت بقطع البامبو مما يدل على فقر مدقع ولا نكاد نرى سيارات أو لوازم الحياة الأخرى والمنطقة خالية تماما من المداخن مما يدل على خلوها من المصانع على امتداد رحلتنا بالقطار التي دامت لأكثر من ست ساعات من كلكوتا الى مرشد آباد.. وقيل لنا إن مديرية مرشد آباد بكاملها تخلو من المصانع وبالتالي ليست هناك فرص عمل إلا في القطاع الزراعي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.. وبدا أن حتى هذا القطار البطيء شيء عجيب للقرويين الذين كانوا يقفون يتفرجون القطار وهو يمر بمنطقتهم ورأيت طفلا صغيرا يقف على عتبة بابه يلوح لنا مودعا ولا أدري هل كان يودع المسافرين أم القطار!.. ورأينا علامة «786» منقوشة على أبواب المنازل مما يدل على أنها للمسلمين حيث أن المسلمين في شبه القارة يرون أن عدد (786) يطابق أرقام الحروف البسملة حيث أن لكل حرف رقما. ودهشتنا كانت أكبر حين وصلنا (مرشد آباد) وهي بلدة تاريخية كانت في يوم ما حاضرة ما لا يقل عن ثلث الهند.. فحين خرجنا من محطة القطار المتواضعة للغاية لم نجد بها سيارة واحدة، أجرة أو خاصة.. وكل ما كان هناك هو عربات الريكشا التي يجرها البشر.. فاستأجرنا عربة ريكشا وطلبنا من السائق أن يأخذنا الى فندق جيد فممرنا بأكثر من «فندق» وهو ليس بفندق بل عبارة عن مبانٍ هزيلة بها غرف مظلمة تنبعث منها روائح غير طيبة.. وأخيرا وجدنا «فندقا» بدا أفضل من غيره ووضعنا به أغراضنا ثم انطلقنا لنشاهد المدينة.. وحاولنا أن نتعرف الى الشخص الذي كان يجر الريكشا فأخبرنا أن اسمه (قطب الدين شيخ) وهو يعيش في منطقة أكواخ بالقرب من محطة القطار ويمارس هذه المهنة منذ ست سنوات ويكسب نحو مائة روبية في نهاية اليوم ويرسل أبناءه الثلاثة الى المدرسة لكي لا يجروا الريكشا مثله حين يكبرون. واندهشنا ونحن نمر في طرقات المدينة الضيقة أنها خالية تماما من السيارات وأكثر شيء رأيناه عند الناس هو الدراجة البخارية ورأينا أيضا ريكشا آلية غريبة الشكل ركبوا عليها محركاً بطريقة بدائية.. والأغراض التي يحملها الناس في الشوارع والملابس والأحذية التي يلبسونها ونوع الشنط الرخيصة للغاية التي يحملونها تدل على الحالة المعيشية الرثة في المنطقة. وغياب أجهزة الهاتف المحمول رغم توفر الخدمة كان أمرا يلفت النظر بينما في مدينة مثل دهلي وبومباي ترى كل شخص تقريبا يحمل هذه الأجهزة. وشدّنا أيضا أن وجوه الناس حزينة خالية من البسمة.. ولم يكن غريبا هنا أن ترى الرجال والنساء حفاة وأنصاف عراة. ووجدنا العديد من الشبان الذين تخرجوا في الجامعات منذ سنوات إلا أنهم عاطلون لعدم وجود فرص عمل وحتى ما هو متوفر من الوظائف القليلة فيحتكره محسوبو الحزب الشيوعي وخصوصا من الهندوس... وتجد علامة الحزب الشيوعي - المنجل والمطرقة - في كل مكان وعلى كل الجدران وعلى مداخل البيوت وكأنها رمز الأمان والطاعة. والمنطقة منقطعة عن بقية الهند بسبب تركيز حكومة الولاية على اللغة البنغالية التي تكاد تكون هي اللغة الوحيدة هنا ولا ترى أثرا للغة الهندية الرسمية أو للغة الإنجليزية. ودخلنا بيت أحد أحفاد الأمراء الذين حكموا هذه المنطقة فإذا به بيت متواضع للغاية ومدخل البيت الصغير هو غرفة الاستقبال. وأخبرنا هذا الشخص الذي يعمل مدرسا أن مرشد آباد شهدت عدة موجات هجرة منذ بدء السيطرة البريطانية، ثم عندما نقل الإنجليز الحاضرة من مرشد آباد الى كلكوتا سنة 1773 فأخذ الناس ينتقلون الى كلكوتا وغيرها من المناطق واستمر هذا مواكبا الاضمحلال المطرد الذي شهدته مرشد آباد بعد بدء السيطرة الإنجليزية عقب هزيمة الأمير سراج الدولة في معركة بلاسي سنة 1757م. وحتى أمراء مرشد آباد أخذوا يشيدون القصور في كلكوتا ليعيشوا بها.. ووقعت موجة الهجرة التالية الكبيرة حين شاع أن هذه المنطقة ستكون من نصيب باكستان في خطة التقسيم سنة 1947 فتوجه الخاصة الى داكا وكراتشي آملين أن يحصلوا على مناصب ووظائف في الدولة الجديدة.. ثم هاجر المزيد في أوائل الخمسينات حين أصبح الجنرال إسكندر ميرزا - أحد أحفاد أمراء مرشد آباد - حاكما عاما لباكستان ظانين أنه سيفتح لهم أبواب الامتيازات والوظائف الحكومية في باكستان.. وحتى من بقوا هنا، فحسب هذا الشخص - واسمه الدكتور رضا علي خان - خسروا الكثير لأن أراضيهم الزراعية كانت موجودة في عدد من المناطق مثل راجشاهي وداكا التي هي جزء من بنغلاديش الآن. وأخبرنا هذا الشخص أيضا أن الأمراء كانوا قد أودعوا مبلغ 20 مليون روبية سنة 1835 وكان مبلغا كبيرا للغاية في ذلك الوقت وهو يسمى «صندوق وديعة النظامة» وذلك لكي يستخدم لإعانة أحفاد الأمراء وترميم بيوتهم وتعليم أبنائهم إلا الحكومة الهندية التي آلت اليها تلك الوديعة من الحكومة البريطانية لا تعطيهم شيئا. وكان الأمراء قد أنشأوا هنا كلية جامعية إلا أن الإنجليز حولوها الى مدرسة ثانوية زاعمين أن المنطقة لا تحتاج الى كلية..! هذه هي اليوم حالة مدينة كانت قبل مائتي سنة فقط عاصمة ثلاثة أقاليم تمثل نحو ثلث الهند المغولية هي البنغال بما فيها بنغلاديش حاليا وبيهار وأوريسا.. وهي المدينة التي كانت أول عاصمة لحكومة شركة الهند الشرقية وهي التي كتب عنها اللورد كلاييف - الذي دشن عهد الاستعمار الإنجليزي للهند حين هزم حاكم المنطقة الأمير سراج الدولة في معركة «بلاسي» سنة 1757م - كتب هذا اللورد الى سادته بلندن في أحد تقاريره: «إن مدينة مرشد آباد أكبر من لندن ويعيش بها عدد أكثر من الأثرياء مقارنة بلندن».. ونحن نستغرب هذا الكلام اليوم إلا أنك لو زرت الآثار التي لا تزال قائمة في مرشد آباد فستصدق هذا الكلام بحذافيره.. فقصر «هَزار دُوَاري» (قصر الأبواب الألف) وحده يكفي تصديقا لهذا الكلام و«مسجد كَتْرَه» يزيده تأكيدا من بين عشرات من الآثار التي لا تزال قائمة باقية بينما بقايا آثار كثيرة لا تزال مشهودة في صورة مداخل وجدران وأطلال قصور مهدمة تبكي على ماض تليد والمقابر وهي كلها تعاني من إهمال رسمي وسنعود الى هذه الآثار في تقرير آخر.. وبحثنا في مكتبات مرشد آباد وبراهمبور أي كتاب بالإنجليزية عن مرشد آباد فلم نعثر إلا بعض الكتب الخفيفة باللغة البنغالية. وقصر «هَزار دُوَاري» يتحدى أفخم قصر ملكي في العالم ومسجد كَتْرَه يضاهي أي مسجد فخم في العالم إلا أنه مثل كثير من المساجد الأثرية في أنحاء الهند، الصلاة في هذا المسجد محظورة حيث أن هيئة الآثار الهندية قد استولت عليه ووضعت إعلانا عند مدخله يقول: «هذا أثر تاريخي ذو أهمية قومية. يعاقب من يسبب له الضرر بالحبس والغرامة». وقد أنشأ هذا المسجد القائد (مرشد قُلي خان) فاتح البنغال وأول أمراء مرشد آباد وهو مدفون تحت مدرج هذا المسجد. واندهشنا من أن السلطات تمنع منعا باتا تصوير أي شيء داخل القصور التي قد حولتها الى متاحف. وحين صورت رسما للأمير (واصف ميرزا) في المتحف الذي يحمل اسمه ولا يوجد بداخله شيء يذكر خرجت موظفة غاضبة وقالت لنا: «لقد قمت بشيء شنيع ! ألم تر الإعلان على باب المتحف بأن التصوير ممنوع؟» فرددت عليها قائلا: «نعم، هذا أمر شنيع حقا».. ووجدنا أنه ليس بداخل هذا القصر بالذات ما يستحق التصوير فيبدو أنه قد تم تجريده كاملا من محتوياته. إلا أن حديقته الأمامية تحوي بعض التماثيل ومقاعد قديمة صدئة. ويكفي دليلا على إهمال السلطات وطمسها لتاريخ (مرشد آباد) أنها اتخذت مدينة أخرى داخل المديرية مركزا لها وهي مدينة (برهامبور) - وأصله بهرامبور - وأنشأت بها كليات وحتى جامعة عصرية بينما لا توجد في مدينة مرشدآباد التاريخية نفسها إلا مدرسة ثانوية!.. وبينما تنبض برهامبور بالحياة كأية مدينة هندية مزدهرة تجد في مقابلها (مرشدآباد) كأنها تحتضر.. ومنطقة بلاسي بداخل المديرية هي اليوم بلدة صغيرة يقف بها القطار المتوجه الى مرشدآباد. وكان الإنجليز قد انتصروا في معركة بلاسي بسبب خيانة قائد الجيش (مير جعفر) الذي تحالف معهم سرا ضد سيده (سراج الدولة) حاكم الأقاليم الثلاثة. ولا تزال أطلال قصر (مير جعفر) قائمة وهو يعرف ب «نمك حرام ديورهي» أي «قصر الخائن» وكان الإنجليز قد نصبوه أميراً لبعض الوقت. وعقب الانتصار في بلاسي تحول الإنجليز من تجار الى حكام ولم يمض نصف قرن حتى احتلوا دهلي نفسها سنة 1803 محولين الإمبراطور المغولي الى حاكم رمزي يتقاضى مرتبه من شركة الهند الشرقية. وأخذ أمراء مرشد آباد يقلدون الإنجليز في أسلوب المعيشة وهذا ما تدل عليه مقتنيات قصورهم ووصل الأمر بأواخر الأمراء أن أخذوا يحاكون الإنجليز في الملبس والمظهر. والقصور التي شيدت بعد بدء الهيمنة الإنجليزية هي الأخرى تحاكي أسلوب البناء الغربي.. وفي اليوم التالي توجهنا الى بلدة جالانغي التي تعاني من المجاعة.. فإن كانت مرشدآباد قد أدهشتنا بسبب الإهمال وانعدام الخدمات كانت دهشتنا أكبر ونحن نمر بالطريق المؤدي الى جالانغي، فكان الاوتوبيس الذي استقللناه من برهامبور يحتكر الطريق الذي خلا من السيارات والشاحنات والعربات الأخرى ما عدا بعض الأوتوبيسات التي مرت بالطريق من وقت لآخر في هذا الاتجاه أو ذاك ولم نر حتى الدراجات العادية أو النارية إلا نادرا.. وهكذا وصلنا الى (جالانغي) وهي بلدة (جديدة) قامت بنفس الاسم بعد أن ابتلع النهر بلدة جالانغي القديمة التي كانت تحوي نحو 900 بيت حسبما قال لنا الأهالي. ومما يدل على فقر سكان البلدة أن من النادر أن ترى بيوتا مشيدة بالاسمنت فغالبية البيوت هي أكواخ من البامبو الرخيص ولا يكلف بيت من هذا النوع أكثر من ألفي روبية ويعيش لمدة عشر سنوات. وهذه البيوت الخفيفة التي لا تقوم على أساس متين معرضة للجرف في الفيضانات والأعاصير والأهالي يبنونها بأنفسهم بدون الاستعانة بالعمال. ورأينا الرجال - وأحيانا النساء أيضا - يجلسون تحت مظلات كبيرة أنشأوها خارج بيوتهم - باستخدام البامبو الموجود بكثرة في المنطقة - يتحدثون أو يستلقون والبعض يلعب الورق، فسألنا عن السبب.. فقيل لنا أنه ليس عندهم أي عمل يقومون به فهم يقضون الوقت بهذا الأسلوب. وسألناهم: وماذا عن فرص العمل في هذه المنطقة؟ فقيل لنا أن العمل المتاح هو في المزارع خلال المواسم أو ما توفره الحكومة للعاطلين من حفر وردم.. وليس في منطقة جالانغي كلها إلا مصنع واحد لإنتاج نوع من السجائر الرخيصة التي تصنع باليد وتسمى «بيري» وهذا المصنع يستوعب مائة شخص فحسب..! وترى النهر من هنا وهناك يجرف الأرض والبيوت والقبور الواقعة على الشاطئ ورأينا بيوتا قائمة على حافة الشاطئ وقال لنا الأهالي إن مثل هذه البيوت ستختفي قريبا بسبب زحف النهر البطيء. ومياه جالانغي ملوثة بسم الأرسنيك (الزرنيخ) وقد حفرت السلطات عددا قليلا من المضخات اليدوية العميقة (400 قدم تحت سطح الأرض) إلا أن مثل هذه المضخات ليس متوفرا في كل مكان. ولا يبدو أن للسلطة من وجود هنا إلا في صورة مواقع لحرس الحدود على طول النهر ومكتب للجمارك الهندية وهذا المكتب يتسلم مواد التهريب التي تأتي من بنغلاديش ويصادرها حرس الحدود ثم يبيعها بالمزاد العلني. وأراض بنغلاديش تقع على الجانب الآخر من النهر بل ورأينا علامات الحدود على الجانب الهندي أيضا. والأرض على الجانب الآخر من النهر هي أرض بنغلاديشية وهناك أراضٍ بنغلاديشية على الجانب الهندي من النهر أيضا. وبلدة (تال باتي) بمديرية كوشتيا البنغلاديشية تقع على الجانب الآخر من النهر. وأخذنا نمشي على الشاطئ الذي استوطنه الأهالي الذين فقدوا أراضيهم في عدة قرى متباعدة على طول الشاطئ. وفي كل قرية ذهبنا اليها تجمع الناس حولنا يحكون لنا عن مآسيهم وعن الذين ماتوا جوعا وعن الشبان الذين نزحوا الى أراض بعيدة مثل دهلي وبومباي وكوجرات وأجزاء أخرى من ولاية البنغال الغربية بحثا عن العمل تاركين وراءهم العجزة من شيوخ ونساء وأرامل وأطفال.. وهكذا مررنا مشيا على الأقدام بعدة قرى على شاطئ النهر - لا توجد بها طرق معبدة أو مسفلتة - مثل قرى غوشبارا، وفرزي بارا، وراج بارا، وباراس بور، ودايارام بور، وغوريبور بهانغانبارا، وإسكول بارا.. والأخيرتان منها فقط تقوم على أراض قدمتها الحكومة لتوطين القرويين الذين فقدوا قراهم التي كانت تحمل سابقا نفس الأسماء إلا أن الحكومة لم تعطهم بعد الإعانات النقدية الموعودة لتشييد منازلهم المتواضعة بأي مقياس. والقصص التي نسمعها من سكان هذه القرى هي في كل مكان نزوره: النهر قد غيّر مجراه والتهم بيوتهم وأراضيهم فهربوا الى مكان آخر. وبعضهم - مثل أيوب علي في قرية باراس بور - قد أضطر لتغيير مكان إقامته ثلاث مرات خلال السنوات العشر الماضية. ومشكلتهم أيضا واحدة: السلطات منعت عن معظمهم بطاقات التموين المخصصة للأهالي العائشين تحت «خط الفقر» والتي تسمح لهم بالحصول على الغذاء بسعر مدعوم وبالتالي هم لا يستطيعون الحصول على الغذاء - وهو الأرز هنا- بسعر منخفض كما لا يحق لهم الحصول على عمل ل 100 يوم على الأقل في السنة حسبما يقتضيه البرنامج الحكومي لمساعدة الفقراء الذين يحملون بطاقات «تحت خط الفقر». وحتى عندما يعملون فهم لا يحصلون إلا على 62 روبية في اليوم وحتى هذا لا يعطي لهم نقدا بل هم يحصلون على 32 روبية نقدا والبقية في صورة 5 كلغ من الأرز وحتى هذا الأجر الزهيد لا يصل اليهم بكامله بل نشطاء الحزب الشيوعي الماركسي الذي يحكم الولاية يستقطعون منهم روبيتين و 300 غرام من الأرز لصالح صندوق الحزب!.. وقد اشتكوا كثيرا وخرجوا في مظاهرات الى مكاتب السلطات المحلية وخرجوا رافضين الأرز الذي كان منتناً متعفناً إذ لم يوزعه مسؤولو الحكم المحلي في الوقت المناسب رغم أن المخازن مكدسة به وفي نفس المنطقة! والذين يجدون العمل في المزارع الخاصة يحصلون على أجرة 20 روبية في اليوم ومع ذلك لا يجدون العمل لأكثر من 10 -15 يوما في الشهر. وقد مات رجل أو امرأة أو طفل في كثير من الأسر بسبب قلة الطعام وخصوصا منذ أوائل شهر فبراير الماضي. والصحف الإنجليزية هنا قليلا ما تنشر هذه الأخبار إلا أن الصحف الصادرة باللغة البنغالية وخصوصا (آناند بازار باتريكا) تورد هذه الأخبار بانتظام. وهي قضية حزينة لحكومة شيوعية تدعي خدمة الفقراء والدفاع عن حقوقهم بينما هي نفسها لا تحرك ساكنا عندما هم يموتون جوعا بل وهي لا تفي حتى بالوعود التي قطعتها على نفسها قبل سنوات عند بدء المشكلة لتوطين هؤلاء ودفعهم تعويضات نقدية ليتمكنوا من تشييد بيوتهم وإعطائهم مزارع بدلا عن التي فقدوها.. وقد توجه شباب المنطقة الى ولايات أخرى بحثا عن عمل وبقي الضعفاء أو من لا ولد أو زوج له وهؤلاء يواجهون مصيرا مظلما وكلهم تقريبا أميون لا يقدرون على رفع صوتهم أوالكتابة الى السلطات أو الصحف أو التظلم الى المحاكم.. وغالبيتهم مسلمون إلا أن بعضهم هندوس أيضا.. وقال لنا ديجين باراوانيك - من قرية دايارام بور - التي هي الأكثر تضررا بالمجاعة - أن 692 شخصا في قريته على شفا الموت بسبب المجاعة. والتقينا في هذه القرية بامرأة مات صهرها (عليم الدين) وزوجته خلال أسبوع واحد قبل شهرين بسبب المجاعة وبعد هذا فقط أخذ جيرانهم يتصدقون عليهم ببعض الطعام من وقت لآخر. ووجدنا في قرية باراسبور امرأة تقوم بحياكة نوع من اللحاف وعندما سألناها عما كانت تقوم به، فقالت إنها تعد «كاتها سيلا» لأحد الأشخاص في قرية مجاورة فسألناها كم يستغرق إعداده وكم ستحصل عليه من أجر؟ فأخبرتنا أنها تقضي 3 أشهر في إعداد لحاف واحد وهي ستحصل في نهاية الأمر على مائتي روبية..! ووجدنا في نفس القرية رجلا طاعنا في السن - عرّفنا نفسَه ب «ساريات موندال - يكاد يكون أعمى قال إن لديه بطاقة التموين الخاصة لمن هم تحت خط الفقر ويحق له الحصول على 2 كلغ من الأرز كل أسبوع بسعر مدعوم - 3 روبية للكيلو - إلا أن الأرز لا يتوفر في محل التموين كل أسبوع. وأخبرنا الأهالي أن أطفالهم يذهبون الى المدرسة الحكومية في المنطقة وهم لا يدفعون أية رسوم بل يحصلون أيضا على الغداء المجاني في كل يوم مدرسي.. وهؤلاء القرويون يدفعون رسوماً مرتين في السنة لملاك الأراضي التي أنشاوا عليها أكواخهم المتواضعة ويتحدد الإيجار حسب مساحة الأرض التي يستخدمونها إلا أنهم لا يدفعون شيئا لو كانوا قد أنشأوا أكواخهم على أراض حكومية. ورأينا أكواخا من هذا النوع على جانبَي الطريق العام أيضا حيث استغلوا الأراضي التي تترك للطرقات على جانبي الطريق العام فأقاموا عليها أكواخهم. والإيجار المطلوب دفعه هو ألفا روبية عن كل بيغا (ثلث الإيكر) في السنة. وهناك عدة برامج حكومية لمساعدة أمثال هؤلاء ومنها إصدار بطاقات تموينية لمن هم تحت خط الفقر ويحق لحملة هذه البطاقات أن يعملوا في إطار «برنامج العمل مقابل الغذاء» لمدة 100 يوم على الأقل في السنة إلا أن المتضررين في أكثر من قرية قالوا لنا إنهم لا يحصلون على هذه البطاقات وأن عناصر الحزب الشيوعي والمحسوبين على زعماء الحزب وأقرباءهم هم الذين يحصلون على هذه البطاقات وهم قالوا لنا إن نحو 20 في المائة من المتضررين فقط قد حصلوا على هذه البطاقات.. وسألناهم: لماذا لا ترفعون الصوت ضد هذا الإجحاف ولمَ لا تحتجون؟ فقالوا: من يستطيع أن يعارض مسؤولي الحزب الذين ينتقمون ممن يرونهم من المعارضين بشتى صنوف الانتقام والاعتداء بالضرب ومنعهم من العمل.! وفي هذه الأثناء أقيمت دعوى في المحكمة العليا الدستورية ضد وزارة الزراعة المركزية وحكومة ولاية البنغال الغربية لإجبارهما على تحسين ظروف الضحايا ومساعدتهم على الوقوف على أقدامهم. ومن المتوقع أن تبدأ المحكمة العليا النظر في هذه القضية بعد نحو أسبوع.