أثبتت بعض التجارب الدولية المتميزة في مكافحة الفساد انه لا يمكن الوصول إلى مكافحة ناجحة للفساد دون وجود ثلاثة أسس كضمانة لمصداقية وفعالية هذه المكافحة.. هذه الرؤى تنطلق من انه لا بد من: وجود إرادة سياسية تأخذ على عاتقها المبادرة بالمكافحة، وجود منظومة قانونية متكاملة وحديثة وصارمة تحاكي المستجدات والأنماط التي تشكل فساداً، وجود جهاز فعال يتولى المكافحة ويتمتع بالاستقلالية لاتخاذ الإجراءات المناسبة تجاه التجاوزات التي تشكل فساداً؛ هذه هي السياسات التي تبنتها سنغافورة للحرب على الفساد منذ استقلالها في نهاية الخمسينيات حتى أصبحت سنغافورة تصنف من قبل منظمة الشفافية الدولية من بين الدول الأقل فساداً في العالم، وهي بحق أي هذه الركائز حجر الزاوية لنجاح قصة مكافحة الفساد في سنغافورة، حيث ورث السنغافوريون مؤسسات فعالة لكن فاسدة، فاستشعروا مدى الخطر الذي يهدد عملية الإصلاح والتنمية نتيجة لتلك الممارسات غير القانونية، لذا سعى ونجح الحزب الحاكم في ترجمة خططه واستراتجياته والترويج لها بشكل واسع في شعار بسيط تمثل في:(حافظ على النظافة وتخلص من الرشوة)، هذا الشعار لقي صدى واهتمام المجتمع السنغافوري كشريك في المكافحة ولازال كذلك .. نحن في هذا الوطن الغالي يفترض أن نفتخر بل ونفاخر بان ديننا الحنيف يحفل بالعديد من المبادئ والقيم التي تعد ضرورية لصون النزاهة ونبذ الفساد، وهنا تكمن أهمية التذكير بأنه مهما أوتي الفاسد من فطنة وذكاء وسلطة لتفادي المساءلة القانونية والعقاب الدنيوي، فذلك لن يمنحه حصانة عن المسألة في الآخرة أمام من يعلم كل صغيرة وكبيرة جل جلاله في يوم لا ينفع فيه مال ولا جاه إلا من أتى الله بقلب سليم؛ كما أننا في هذا الوطن الغالي يجب أن نعتز وندعم مسيرة الإصلاح الشاملة للعمل المؤسساتي التي أخذها خادم الحرمين الشريفين – يحفظه الله -على عاتقة منذ توليه سدة الحكم، فأسس بنيانها ليكون شاهداً على فصول هذه التنمية المستدامة، فقد حرص ولا زال قائد نهضة هذا الوطن -اعزه الله-يحرص على إرساء مبادئ العدالة والمسألة والقضاء على كل ما من شأنه إن يقوض من فرص المساواة بين المواطنين، لذا صدر الأمر الملكي الكريم رقم (أ/65) وتاريخ 13/4/1432ه القاضي بإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، هذا التوجيه الكريم جاء ليؤكد وجود النية الصادقة والإرادة الملكية الكريمة لحماية الموارد العامة للدولة ومؤسساتها ومصالح المواطنين والأجيال القادمة والقضاء على استغلال الوظائف العامة وأسباب تنامي الثروات المتأتي من الفساد بكافة أشكاله وألوانه، وكذلك التذكير بان الوظيفة ليست ولم تكن يوماً مغنما .. بل هي مسئوليه وأمانة أمام الله جل جلاله ثم الملك والوطن.. ومهما كانت تحديات مكافحة الفساد على اعتبار أنها عبارة عن حزمة من التشريعات والجهود التي تضطلع بها جهات عدة في ظل تنوع وتعدد مستويات السلوك المنظم لجرائم الفساد وسريته والحاجة إلى تحديث وتطوير المنظومة القانونية التي تحكمه؛ فأنها أي هذه المكافحة ممكنة .. وستتمكن إن شاء الله الهيئة من تحقيق تطلعات خادم الحرمين الشريفين -يحفظه الله - بجهود من وضعت فيهم الثقة من ولي الأمر وبدعم من كل غيور على ثروات هذا الوطن المعطاء طالما إن الرؤيا مستنيرة والعمل دءوب والإخلاص غاية، فنأمل ان يلقى إنشاء الهيئة الاهتمام ويحرص القائمون على ذلك بتضمين لوائح عملها التنفيذية تفصيلا لما ورد في تنظيمها كما هو معمول به في كثير من التجارب الدولية من الآليات والضمانات الأساسية للمكافحة المتمثلة في: الوقاية، والشفافية، والمسألة، والتنفيذ، والتثقيف، والسرية، والحماية، والاسترداد؛ ووضع قنوات محفزة وآلية واضحة وطرق سهلة لتلقي البلاغات عن الأفعال ذات العلاقة بالفساد، والتحري بشأنها بجمع البيانات والمعلومات وتحليلها، ومن ثم إعداد التقارير تمهيدا لاتخاذ الإجراءات النظامية بشأنها.. إن الأمر الملكي الكريم القاضي باستحداث الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ما هو إلا خطوة ولكنها مباركة وموفقة نحو طريق ندرك جميعاً فائدته المرجوة على الوطن ومواطنيه، ويبقى علينا كمواطنين ومواطنات دور مهم يتمثل في رفع مستوى الحس الوطني لدى أبنائنا وتعميق روح الانتماء لهذا الوطن المعطاء وترسيخ مظاهر الولاء لقيادته.. ووسيلتنا إلى ذلك هو تجسيد الالتزام بالقوانين وحسن التعامل مع المال العام بالحفاظ عليه سواء كنا حارسين له أو مستفيدين منه، وكذلك يبقى دور بل هو التزام ديني وقانوني على الموظفين والموظفات والإعلام كمصادر أساسية للمعلومة وعين حارسة على مكتسبات الوطن.. فهل تولي هذه الهيئة الفتية تلك المصادر حقها من الاهتمام وتحفزهما على الشراكة والمبادرة وتوفر لهم الحماية والسرية والقنوات التي سوف تمكنهم من المساهمة في تعزيز النزاهة ومكافحة الفساد..؟! فالمعلومة تعد ركيزة أساسية رابعة تضاف للعوامل الثلاثة المذكورة أعلاه لنجاح مكافحة الفساد.. لأنه لا مكافحة من دون معلومة. * أكاديمي سابق (قانون).