يتصدر التاريخ الشفاهي مراكز البحوث الغربية والبريطانية على وجه التحديد، منذ سبعينات القرن المنصرم، وقد احتل مكانة تفوق التاريخ الرسمي أو الأكاديمي بمفهومه القديم. أنه تعبير وتمثيل للثقافات الأصلية، فتدوين الروايات الشفاهية للفئات المنسية والأماكن الضائعة من ذاكرة الحاضر، غدت ضرورة ملحة للدراسات الثقافية والنقد الأدبي والانثربولوجيا والسوسيولوجيا وعلم النفس. رواية الكاتب البحريني خالد البسام "لا يوجد مصوّر في عنيزة" المؤسسة العربية للدراسات والنشر، تبدو أقرب إلى هذا المسعى، فهي تستعيد جزءا من التراث الشفاهي لحكايات النازحين من منطقة عنيزة في نجد إلى العراق والبحرين. ومع بساطة هذه الرواية لغة وأسلوباً، غير انها محاولة لشحذ ذاكرة تلك السجلات المنسية للمدينة. لا تحاول الرواية تغريب تلك الحكايات او تأويلها أو خلق ظلال تتحرك خارج عالمها، فهي معنية بتقديم سردية تشبه الحكاية العربية حين تتابع مصائر أناس عنيزة عندما كانت قرية صغيرة، تسافر قوافلها الى العراق والشام والبحرين بحثا عن الرزق. لا أعرف عمر الكاتب ولا اختصاصه، ولكنه بالتاكيد حاول في هذه السردية الاستعانة بمرويات أناس عاشوا في الثلاثينات من القرن الماضي، وجزء كبير من ذكرياتهم يتصل بعنيزة القديمة وأساليب عيشها ومسامرات شيوخها وشبابها. ولعل أفضل ما فيها، عرض المؤلف مزاج الناس وهو ينظر إليهم بحنو وطيبة. بين خطوة الرحيل عن المكان الأول وعودة الذاكرة اليه، يعبر البسّام جسر ذلك التواصل بين عنيزة والزبير والمنامة من خلال مصائر بطلي روايته مساعد ويوسف. الأول ذهب إلى الزبير وتعلّم في مدارسها وغدا مثقفا مرموقا وانتظم في أحد الاحزاب المعارضة للملكية وشارك في التظاهرات واعتقل في سجن ببغداد. ثم استعاد حياته وتزوج من حبيبته العراقية ورحل إلى الهند وغدا تاجرا، ولكنه لم ينقطع عن عنيزة رغم انه لم يعد اليها. يوسف الشخصية الثانية، يرفض في البداية الرحيل عن المكان ويفضّل العمل فلاحا على مغادرة بلدته، ولكن طموحه إلى المعرفة، رغم انه أتاها متأخرا، قاده إلى اكتشاف العالم الآخر عبر المجلات والكتب. يختاره أحد الوسطاء بين شباب مدينته كي يلتحق بعمل في المنامة ككاتب عند أحد التجار من أهل عنيزة، فيتعرف على حياة المنامة ويرتاد سينماتها ومسرحها، ثم يصاب بالعمى، ويرجع إلى بلدته، ولكنه لا يملك فرصة مشاهدة ما وصلته من تطور، فلم يبق له سوى عبق الذكريات القديمة. عنوان الرواية مستل من كلمات توضوع مكان صورة طالب جواز السفر القادم من عنيزة الى دائرة الرياض الرسمية "لا يوجد مصور في عنيزة" لعله ينقلنا مباشرة إلى جو تلك السرديات المرحة التي تحفل بها روايته، فهو يدخلنا في عالم فطري وبسيط ويحفل بمفارقاته المرحة: طيبة الناس وحكاياتهم مع الحرب وهتلر واستذكاراتهم عن البصرة وبلاد الشام، وتلك الأماكن البعيدة، وصحراء النفوذ والنخيل الذي يرعى المدينة، وتبدّل المواسم وتشتت الناس وتلاحمهم. "هذه الرواية لا تدعي الخيال ولا تؤكد الحقيقة، ولكنها من بقايا ورماد الأثنين معا" هكذا يضعنا المؤلف في المفتتح أمام متابعة تقترب من سيرة متخيلة لأجداده، وبمقدورنا في هذه الحالة، قراءة المكان من خلال حدي الخيال والحقيقية، وهما مترابطان في درس التراث الشفاهي، فما من محكية يتناقلها الأحفاد عن الأجداد تبتعد عن الخيال رغم كونها تصب في صلب الحقائق. فالتاريخ بمعناه ومبناه التقليدي لم يعد يمتلك موضوعية الوثيقة المدونة، فهو يُفهم في الكيفية التي يقرأها كاتبه، في حين يبقى التراث الشفاهي أكثر قدرة على تمثّل الثقافة المحلية لكونه يحمل في منطوياته معنى الأحداث وظلالها، وكيفية تفاعل الذاكرة الجماعية معها وطرق تفسيرها. عنيزة بهذا المعنى، هي الأرض البكر الذي تشكلت صورتها من خلال رواية أناسها، ولكنها تتواصل في المدن الأخرى التي قصدها فيها شبابها لتتحول مزيجا من تاريخ ارتحال وإقامة. صحراء النفوذ التي تبدو وكأنها رمل لا ينتهي، تصبح عند الغروب ملتقى لأهل عنيزة وفسحة للراحة ومرتعا للسواليف" هنا لا شجر ولا نخيل ولا ظلال، انما رمال ناعمة فقط. رمال تنام عليها وتلعب بحباتها وترتاح بين أحضانها. إنها رمال ولا كل رمال الدنيا" صوت خاتمة لا بداية يضعها البسّام في الصفحات الأولى، فهي العبارة المالوفة للمقتلعين عن أماكنهم الأولى حيث يجدون تسليه في منع النفس من استبدال عالمها القديم بالجديد. ولكن الرواية تبدأ من حديّ المكان: انغلاقه على حياة بدائية بسيطة، وانفتاحه على العالم عبر رسائل المغادرين وقصصهم وقوافل العقيلات في غدوها ورواحها، فحكاية هتلر وحربه تتسرب الى دكاكين عنيزة، والأبناء ينقلون ما تقوله صحف العراق وقلق البريطانيين من زحف هذا المارد، ولكن ولد بن عبود الخيّاط في السوق يقول ببساطة " والله يا جماعة تراني ماني بخايف على شي. ما عندي إلا هذا الدكيكين الصغير وإذا يباه هتلر خله ياخذه" بين الجد والهزل تتشكل تلك تلك القناعات والتصورات عن العالم الخارجي. ولكن شخصيتي مساعد ويوسف تساعدان القارئ على الانتباه إلى تلك الذبذبات البعيدة في سُلم القيم، قيم المدينة الصحراوية حين تنتقل إلى عالم متحرك وصادم، ولكنه ليس مغتربا عنها، فالناس تسمع في سمرها عن تلك الأماكن كل يوم، ولكنها تبقى محض خيال لمن لم يغادرها. الزبير في البصرة التي ينتقل اليها مساعد، مدينة للنجادة وبينهم أهل عنيزة، ولكنها ليست مكانا مغلقاً لهم وحدهم كما تقول الرواية، ومرويات مساعد عنها تجعل ذاكرته ممتدة وليست منقطعة، ولكنها متفاعلة مع المكان الجديد وجزءا منه. فعلاقته مع مائدة العراقية ابنة جارتهم ام علاوي، التي تزوجها، انتشلته من عقدة حبه المرضي لسارة أبنة تاجر عنيزة الثري، فقد هام بها حبا بعد ان شاهد وجهها فقط، ثم هام في الطرقات مثل مجنون ليلى بعد يوم عرسها. مائدة بجرأتها كانت نداء المكان الجديد الذي استجاب له عقله المثقف، وقبل بحملها منه خلال الخطوبة لا بعد الزواج. وهو انتقال من استيحاش الأوهام في العلاقة المحرمة مع المرأة إلى ألفة الحب الإنساني وسعادته. ولعل محاولته ايجاد قواسم مشتركة مع الثقافة العراقية عبر انتمائه الى "حزب الأمة" قاده وصديقه سعدون العراقي إلى قناعة مضادة، فطريق السياسية لا تلتقي بالضرورة مع الثقافة ولا النيات الطيبة. استطاع المؤلف أن يمنح مساعد صفات البدوي النبيل الذي يملك عقل تاجر، وهي مهنة المرموقين من أهل عنيزة، ولكنه حرون ومتذبذب بين التعصب والمرونة. وستبقى شخصية يوسف التي لم تساعدها أجنحتها على الطيران بعيدا، أقرب إلى أهل مدينته، فهو يبقى مرتبطا بذلك الحنين الذي يؤدي به إلى العودة ولو مرغما، إلى ما تبقى من سواليف بلدته. رواية البسّام تحية للذكريات الطيبة عن مدينة متخيلة، ولكنها مستمرة في وجدان أناسها.