ليست المرة الأولى التي أذهب فيها إلى «شارع قابل» ذلك السوق التجاري الذي يقع في وسط منطقة «جدة التاريخية»، ويؤرخ من أقدم أسواقها والقنطرة التي عبر من خلالها كثيرون إلى عالم الثراء والتجارة والمال من أوسع الأبواب، وتحديداً بسطات هذا السوق ودكاكينه التي ولدّت أسماءً تجاريةً كبيرةً أصبحت فيما بعد تقود عالم التجارة في «جدة». وليست المرة الأولى أيضاً التي أذهب فيها إلى السوق الذي عرف أنه سوق الصيارفة واستبدال الأوراق النقدية منذ القدم، ولكنني ذهبت إليه هذه المرة باحثاً عن تاريخ هذا السوق، وقارئاً لكل خطوط طوله وعرضه، ومفتشاً عما بقي من ملامحه القديمة، وحضوره التجاري السابق، ومن بقي من تُجاره القدامى.. ومن غادره.. وكيف هي صورته الآن. بقايا ذكريات من مدخل السوق الشرقي الذي يفصل بين سوق العلوي و"شارع قابل" تسير إلى الشارع عبر النفق من تحت "كوبري سوق الذهب"، حيث كانت حركة السوق في صباح ذلك اليوم عادية، وأعداد المتسوقين محدودة جداً رغم أن الجولة كانت في يوم الخميس المصادف لعطلة آخر الأسبوع، في سوق لم تبق فيه إلا ذكريات الماضي، وبعض التجار، ومحلات الصيارفة كما روى "زين علي العطاس" البائع في محلات "سالم باخشوين"، مشيراً إلى أن كثيرا من الدكاكين قد غادرها أهلها، وتركوها للعمالة الوافدة الذين عاثوا في السوق، وملأوا الدكاكين بالسلع الرديئة والمقلدة وأضاعوا سمعة السوق الذي لم يعد كما كان في الماضي، عندما كان جميع تجاره من الحضارمة والبخارية، ولم يبق من تلك الأسماء إلاّ بعض الأوفياء للسوق وتاريخه، مضيفاً: "جميع سكان جدة القدامى يتذكرون دكان الخواجة (يني) في شارع قابل الذي كان يبيع المخللات والأجبان، وقهوة (خبيني) التي كان يجتمع فيها كبارية أهل جدة آنذاك". بداية الانطلاق وأوضح "محمد عمر القعيطي" أحد تجّار السوق الصامدين حتى الآن في "شارع قابل" أن هذ الشارع كان هو المحطة والقنطرة التي بدأ منها كثيرٌ من الأسماء الكبيرة في عالم التجارة والمال مشوار الألف ميل، مضيفاً: "أتذكر منهم سالم بن محفوظ -رحمه الله- كان يجلس في جانب هذا الشارع على بسطة ومعه ريالات الفضة، حيث يتولى تبديلها بالعملات الأخرى للراغبين من الحجاج والتجّار، ومن تلك البسطة ولدت فكرة إنشاء البنك الأهلي التجاري الذي أصبح خلالها ابن محفوظ واحداً من أكبر تجار البلد"، موضحاً أنه لم ينس كثيرا ممن عاشوا أجزاء حياتهم التجارية الأولى في "شارع قابل"، حيث كان "صالح الراجحي" -رحمه الله- يتجول بشنطة بداخلها العملات، يبيع ويشتري فيها، مستشهداً بغيرهم من التُجّار الذين بدأت انطلاقتهم في مجال المال والأعمال من هذا السوق ك"الشربتلي" و"الصيرفي" و"الكعكي" و"المقيرن" و"بقشان" و"بالحمر" و"باشماخ" و"أبوزنادة" و"بادريق" و"العطيوي" و"محسن" و"باوارث" و"باقبص" و"بادغيش" و"الأعمى"، وغيرهم من الذين فتح الله عليهم أبواب التجارة، من خلال هذا السوق حتى باتوا كبار التجار، مبيناً أن هناك من حمل مهنة أباه وواصل مسيرته، وآخرون تراوحت تجارتهم بين الاستمرار والاضمحلال، وهناك من أضاع ورثه من مال جمعه آباؤهم بجهد وعمل، في وقت تحول آخرون إلى تجارة الأراضي والعقار، أو غادروا هذا الشارع إلى الأسواق الجديدة، والمراكز التجارية، والمولات الفخمة، بعد أن منحهم "شارع قابل" تجربة وخبرة في مجال العمل التجاري، وأعطاهم الثروة التي فتحت لهم الآفاق على أبواب واسعة في مجال التجارة. «البسطات» حاضرة رغم عقود من الزمن "البخاريّة والحضارم" وتحدث التاجران "أحمد باصره" و"عبدالرحمن محمد حسن" عن الحقبة الزمنية القديمة ل"شارع قابل"، حيث كان جزء منه للتجار البخاريّة، والجزء المقابل له للتجار الحضارم، مشيرين إلى أن تجار "البخارية" اشتهروا ببيع السكاكين والمقصات والشنط والسبح ومافي حكمها، بينما اشتهر "الحضارمة" ببيع الأقمشة والملابس والأدوات المنزلية والصيرفة. وأوضح "عبدالرحمن" أن إيجار الدكان قديماً كان بسبعة ريالات فضة، بينما اليوم يبلغ 70 ألف ريال، مضيفاً:"الشارع كان في السابق غير مسقوف، ثم تم سقفه بعد أن اشتراه آل قابل بالزنك المضلع، وأصبح أول سوق في جدة يضاء بالكهرباء بواسطة مولد خاص اشتراه (آل قابل) بعد أن آلت ملكية السوق لهم إثر شرائه من الشريف، وتم سقفه مؤخراً بالطريقة التي هو عليها الآن". ولفت "باصره" أن السوق تبدلت كثير من دكاكينه عمّا كانت عليه في السابق، ولكن السوق ما زال محافظاً على بعض ملامحه، حيث بقي سوق الصيارفة شاهداً على تاريخ لم يُكتب بعد. قليل من التجار مازالوا متمسكين بنشاطاتهم التجارية ولم يغيروها أسواق منسية ويمتد "شارع قابل" من نهاية سوق العلوي شرقاً عند جامع المعمار، وينتهي عند باب البنط غرباً عند بداية شارع الملك عبدالعزيز، ويوجد في منتصفه إلى الجنوب "سوق الخاسكية" الذي يكاد يكون جزءاً من "شارع قابل"، ولكنه يعرف بهذا الاسم، دون أن يتسنى معرفة تسمية الشارع بهذا الاسم؛ بسبب انتشار العمالة الآسيوية بشكل كبير في المحال التجارية بمعظم أسواق جدة القديمة، وليس لهم معرفة بتاريخ المدينة. ولو اتجهت شمالاً من شارع قابل تستمر ب"سوق الأشراف"، ثم "سوق الندى" ولكل سوق منهما نشاط تجاري يختلف عن الآخر فيما مضى من زمن، أما اليوم فقد اختلط الحابل بالنابل، ولم يعد لهذه الأسواق سمتها القديمة، وتحولت معظم دكاكينها لبيع الملابس الجاهزة والإكسسوارات، ولعب الأطفال والأحذية "الرديئة"، ولم يبق محتفظاً بالسمة القديمة لهذين السوقين غير بعض المحلات وبعض دكاكين بيع السمك المقلي!. محمد القعيطي يتذكر تاريخ الشارع تاجر عاش حياته في الشارع سَقف الشارع وإنارته جذبا المتسوقين يمتد «شارع قابل» من نهاية «سوق العلوي» إلى «باب البنط» غرباً «أحمد باصره» يروي للزميل مريشيد قصة ابن محفوظ والبنك الأهلي عبدالرحمن بخاري من التجار الذين توجهوا إلى الأسواق الحديثة