قبل رحيل الشاعر اللباني الكبير أمين نخلة بفترة وجيزة، كان من المقرر إقامة حفل تكريم له في قصر الأونسكو ببيروت، يحضره نفر من كبار الشعراء العرب لمبايعته بإمارة الشعر بعد رحيل الأخطل الصغير، على غرار الحفل الذي أُقيم للأخطل. كان في عداد الذين سيتحدثون في الحفل الشاعر كمال ناصر كممثل لفلسطين. ولكن كمال ناصر قُتل في منزله ببيروت قبل الحفل بأيام معدودة، على يد فرقة إسرائيلية قدمت من البحر وقتلت مجموعة من القادة الفلسطينيين كان منهم كمال ناصر. وبسبب هذا الحادث الذي ساءت معه، وبعده، الأوضاع الأمنية في العاصمة اللبنانية، ألغي الحفل نهائياً، وبعده بأشهر قليلة مات أمين نخلة. ويقول الذين دخلوا منزل كمال ناصر بعد مقتله، إنه، ليلتها، كان ينظم قصيدته في المناسبة المذكورة بدليل أوراق القصيدة التي وجدت بجانبه وكانت ممهورة بدمه. لم يكن كمال ناصر، عندما طُلب منه المشاركة في حفل تكريم أمين نخلة يعرف الكثير منه. كان يسمع به بالطبع، كما كان قرأ له، ولكن كل ما كان يعرفه لم يكن بنظره كافياً للإحاطة بمجمل تراثه. ولكنه عندما استكمل كل ذلك، قال لي يوماً، وكنا في مطعم فيصل تجاه جامعة بيروت الأميركية، إنه يقدر أمين نخلة أديباً وشاعراً مرموقاً، ولكن «ما هذا الأديب والشاعر الذي لا ترد عبارة «فلسطين» ولو مرة واحدة في أدبه وشعره»؟ فقلت له: ولكن لهذا الأديب والشاعر النصراني اللبناني من المواقف الكريمة تجاه العروبة والإسلام، ما يعوّض هذا النقص في تراثه. وجعلنا، أنا وكمال ناصر ونخبة من المثقفين الحاضرين يومها، نتحدث في أسباب ذلك النقص وفي مواقف أمين نخلة من العروبة والإسلام. بداية يمكن القول إنه عندما قامت إسرائيل عام 1948م كان أمين نخلة قد بلغ السبعين من العمر، فكان تعاطيه مع الشعر قد قلّ عن السابق. يُضاف إلى ذلك أنه كان منصرفاً إلى المحاماة والعمل السياسي الداخلي، ولم تكن له صلات وثقى بالعمل القومي العربي. كانت له بالطبع علاقة وثيقة برياض الصلح الذي كان يرشحه على الدوام لرئاسة الجمهورية كماروني ذي نزعة عروبية. والمعروف أن أمين نخلة درس في الجامعة السورية بدمشق ومنها تخرج مجازاً في الحقوق. ولا شك أن مشاعره تجاه فلسطين لا تختلف عن مشاعر أي عربي آخر. ولكن هذه المشاعر لم تتجسد في قصيدة أو في عمل أدبي، على غرار قصيدة «وردة من دمنا» لصديقه الأخطل الصغير، وعندما كانت القضية الفلسطينية تقفز إلى الصدارة بعد تأسيس إسرائيل عام 1948م، وتصبح شغل العرب الشاغل، كان أمين نخلة قد كبر في السن وتوارى إلى حد بعيد في المشهد الأدبي والثقافي اللبناني، ليتحول إلى أديب كبير سابق إلى حدّ بعيد. ذلك أن أهم ما أنجزه كان قد أنجزه في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي. وهو إنجاز عظيم القيمة سواء من الناحية الفنية والجمالية، أو من ناحية الالتزام بقضايا العروبة وبالنظرة البالغة التوقير للإسلام ولرسوله. وهذا شائع على العموم في كل ما كتبه على مدار حياته. ولا بأس من التذكير به نظراً لصدقه ولسلامة بوصلته ولأهميته في زمانه. ذلك أن أمين نخلة عندما كتبه، زمن الانتداب الفرنسي على لبنان أو زمن الاستقلال في الأربعينيات، كان قسم كبير من الأدباء اللبنانيين، والنصارى منهم على الخصوص، يكتبون باللغة الأجنبية (الفرنسية) وإذا كتبوا باللغة العربية، فعن لبنان المتوسطي الذي يدير ظهره إلى الصحراء، ووجهه إلى البحر، والذي حضارته تنتمي إلى الحضارة الأوروبية لا إلى الحضارة العربية.. فلقد كان أمين نخلة مفتوناً بالعروبة وبالإسلام.. كما يتحدث نخلة عن بلاغة القرآن وإعجازه وما يجده من الاهتزاز إزاء فصاحة القرآن وإعجازه، فينبّه نفسه إلى مخاطر انبهارها الفائق بالقرآن، ولزوم الوقوف عند حدّ معين من هذا الانبهار.. وهذا من لطائف ما قيل في هذا الباب السمح في العلائق الراقية بين الأديان. ولكن أمين نخلة يتجاوز حدوده كلها في نصوص أخرى، فيقول في الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يمكن أن يصدر إلا عن نفس عاشقة شديدة العشق للرسول. وبالنظر لأهمية هذا النص فإننا سنعمد إلى إيراد بعضه حرفياً. وقد بدأه الأمين بالتالي: «محمد» نعمة لا كلمة - لفرط ما سمعت على شفاه الخلائق!- تأخذ بالسمع قبل الأخذ بالذهن، وتفيد خفة الحروف، وحلاوة اللفظات، قبل أن تفيد العلاقة بالله! وليس على بسيط الأرض عربي لا يفتح صدره لها، ولا ترجّ جوانب نفسه، فمن لم تأخذ بالإسلام، أخذته بالعروبة.