عرفت المملكة «الانترنت» في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، بقرار من مجلس الوزراء في العام 1998م، لكن عام 2000م شكل الانطلاقة الحقيقية للخدمة في البلاد، ففي ذلك العام تفتحت عيون المواطنين على العالم الافتراضي للشبكة العنكبوتية، وما بين عمليات الحجب والرقابة التي تمارسها الجهات المختصة على بعض المواقع، وبين توجسات الناس من الأمر الجديد، كان العقد الأخير بكل ما حمله من تقنيات الكترونية حديثة، كفيلاً بإحساس الناس أن الشبكة العنكبوتية كانت بالنسبة لهم ك»بحر هائج» يبثون فيه همومهم، بل ويرسمون على شاطئه تطلعاتهم وأحلامهم، ويجدون في صدفاته المعلومة الثمينة، والخدمة العصرية، إضافةً إلى تنفيذ بعض أوامر الخدمات الحياتية التي سهلت عليهم الكثير، ك»العمليات المصرفية»، والتراسل بالبريد الإلكتروني، وكذلك مساحات التعبير عن الرأي، إلى جانب بث آرائهم ومواقفهم تجاه العديد من المعطيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ومثلما كان مواطنو الثمانينيات هم أكثر قراء مجلات الزمن الجميل «اليمامة» و»اليقظة» و»النهضة»، يتولى اليوم أبناؤهم زعامة العرب في خوض غمار «الشبكة العالمية» بشكل ينبئ عن حجم الحضور المكثف في زمن المعلومة والانفتاح على العالم، فماذا فعلت مفاتيح «الكيبورد» والنطاقات العالمية بأبناء المملكة الجدد؟، والذين فتحوا أعينهم على العالم بدهشة كبيرة وحضور كثيف. صدى كبير بالرغم من حساسية المواطنين المفرطة تجاه كل جديد؛ نظراً لاعتبارات دينية واجتماعية توارثوها عبر الأجيال، مروراً بردة الفعل تجاه «الدش» و»الجوال أبو كاميرا»، وبالرغم من تكثيف الضغوط على الناس وتحذيرهم من الانترنت في بدايات الألفية الجديدة من منطلق الريبة التي يراها بعض المحافظين في المنتج القادم، كانت الدعوات تجد صدى كبيراً انطلاقاً من تلك الحساسية، ولكن لم يمض عام أو اثنان حتى بات الناس يتبادلون مراسلاتهم عن طريق «الإيميل»، بل وأصبح الدعاة والفنانون يمتلكون مواقع على الشبكة العالمية، حتى جاء «اليوتيوب» وشقيقه «الفيسبوك» ليفتحا الباب على مصراعيه تجاه التواصل الإنساني في فضاء العالم الواسع، الذي بات يتكلم لغة واحدة، تتجاوز حدود التحجير على تطلعات الأفراد وتقفز على أسوار سد الذرائع. لغة التعبير تجاوزت «حدود التنفيس» ووصلت إلى «الخط الأحمر» نحو المعلومة هذا الانفتاح حرر الذهنية من دروس الإملاء التي كان يمارسها شيخ على منبر، أو سياسي يُنظّر عن واقع يراه بطريقته، أو مثقف يريد أن يصوغ المجتمع من خلال أفكاره الخاصة، وفي الوقت ذاته، مثل الانترنت للمواطنين نافذة كبيرة على المعلومة التي لم يكن ليصل إليها في الزمن المنصرم، فبالاتجاه إلى «جوجل» يمكن للناس اليوم أن يعرفوا تفاصيل كثيرة عن واقعهم المعيشي والحياتي في ظل المعطيات الاقتصادية التي تتوفر في بلادهم، مما يوجه تفكيرهم ويشكل مواقفهم بناء على معطيات الواقع. كيانات افتراضية في زمن الانترنت عرف المواطنون جمعيات وهيئات حقوق الإنسان، وفي زمن الانترنت عرفوا أفكار الإصلاح وهيئات محاربة الفساد، وفيه كذلك تمكنوا من إنشاء «كيانات افتراضية» على الشبكة العالمية، للتعبير عن مواقفهم تجاه بعض المعطيات الحياتية والاقتصادية التي يمكن لهم أن يسجلوا مواقفهم تجاهها، فأنشأوا مواقع المقاطعة والممانعة للسلع التي استغلت حاجاتهم، وكذلك وجد العاطلون عن العمل فرصة على الشبكة العالمية لأن يبثوا همومهم وشكواهم، فيما وجدت المرأة ضالتها في منتديات تروي عطشها في مجالات اهتمامها ك»الموضة» و»وصفات الطبخ»، و»تصاميم الديكور المنزلي»، وكذلك متابعة الجديد في مجال الأثاث، فيما أصبح الانترنت وسيلة حضارية وذات انتشار هائل بالنسبة لرجال الدعوة والمشائخ لأن يتواصلوا مع الناس على صفحاتهم في «تويتر» و»الفيسبوك»، من خلال سجالات يومية، ربما خففت من ذلك الاحتقان الذي فيما يبدو لم يكن كافياً لامتصاصه من خلال منابر المساجد. تنفيس حقيقي في ساحات الإنترنت الكل يحظى بفرصته، بكافة أطياف المجتمع، من طالب دراسات عليا يجري بحثاً، إلى شخص يعرض «مزايين» الإبل على صفحته الخاصة، هذا التنوع في صياغات الطرح على شبكة الإنترنت جعل الشعب يمارس تنفيساً حقيقياً، أدى في نهاية الأمر إلى تشكل وعي جديد يؤمن بقيم إنسانية كبيرة، ويتحدث بلغة عصرية مرنة، بل ويوازن بين كل ذلك والقيم الدينية والاجتماعية، التي لم يشكل الانترنت فيما يبدو أي تهديد لها حتى تاريخه. استهلاك يومي وقال «د.محمد العقيلي» -مساعد الرئيس للتخطيط وتقنية المعلومات بهيئة الغذاء والدواء وأستاذ هندسة الحاسب في جامعة الملك سعود- أن المملكة تشهد حراكاً كبيراً في مسألة تصفح «الانترنت» والتعامل معه، سواء من حيث الاستهلاك اليومي لعمليات التصفح، أو من خلال بناء المواقع والمدونات، مضيفاً أن حضور المواطنين وخصوصاً الشباب على الشبكة العنكبوتية هو حضور عال ومكثف، مشيراً إلى أن غالبية هذا الحضور هو في مجمله استهلاكي، لكنه ليس بالقدر الجيد في مسألة تطوير الخدمات الإلكترونية، أو صناعة البرامج التي تظل أقل من الطموحات. مكانة متقدمة وأوضح «د.العقيلي» أن المدونين من المملكة يتبوؤن مكانة متقدمة بين المدونين العرب، لكنهم يبقون منجزين في مسألة المحتوى، ويعدون مستهلكين لتلك التقنية، مضيفاً أن كثرة مستخدمي الإنترنت سينعكس بشكل ايجابي على صناعة التقنية والاستثمارات فيها، مؤكداً على أنه يحتاج المدونون وأصحاب المنتديات والمواقع إلى شركات للتصميم والبرمجة، لافتاً إلى أن هذا الحراك سيوجد بشكل تلقائي مبرمجين ومصممين بأعداد كبيرة في الفترة القريبة القادمة، ذاكراً أن هذا العمل يجب أن ينعكس بشكل كبير على صناعة الانترنت، وأن نشاهد أعمالاً وبرامج مميزة نتيجة لذلك. نشر الكتروني وأكد «د.العقيلي» على أن حس «النشر الالكتروني» لدى المواطنين عال جداًّ، والدليل فوز مدونات من المملكة بجوائز عالمية، مثلما فاز المدون «طراد الأسمري» ب»جائزة البوبز في ألمانيا»، وحيازته المركز الأول، مضيفاً أن اقتناص الشركات العالمية لمواقع من المملكة والاستحواذ عليها، يشير بجلاء إلى المستوى الذي وصل إليه المواطنون في تعاملهم مع الإنترنت، مؤكداً على أنهم يقودون المدونون العرب اليوم بشكل واضح، مبيناً أن حراك الشباب على الشبكة العالمية سيكون له انعاكسات ايجابية على مستوى الوعي والتواصل الاجتماعي، مطالباً أن يرافق هذا الحراك حراك اقتصادي يستثمر هذه المكانة التي يحققها المواطنون كمتصفحين، وكأصحاب مواقع ومدونات على الشبكة العالمية.