في قراءة تحليلية رصينة قدم المفكر الفرنسي الدكتور شارل سان - برو أستاذ العلوم السياسية ومدير مرصد الدراسات الجيوسياسية والمحاضر في كلية الحقوق بجامعة باريس ديكارت في كتابه الإسلام مستقبل السلفية بين الثورة والتغريب شهادة منصفة ورؤية موضوعية ثاقبة حول الينابيع الصافية للسلفية الحقة المرتبطة والتي لا تمت بصلة لأفكار الغلاة والمتطرفين والخوارج. ويطرح المفكر الفرنسي في هذا الكتاب - الذي بادرت مكتبة الملك عبدالعزيز العامة إلى إصدار ترجمة له باللغتين العربية والإنجليزية - رؤية شاملة عن الإسلام من خلال رصد عدد من المدخلات الضرورية التي لا غنى عنها لفهم الفكر الإسلامي بشكل أفضل من قبل أبناء الغرب، وإمكانية إقامة حوار أكثر فاعلية مع أبناء الأمة الإسلامية. ويؤكد د. سان - برو في مقدمة كتابه أن هذه الرؤية التي يطرحها عن الإسلام والسلفية تقدم مجموعة من الحقائق التي تفند الهجمات اللامبررة والدعاوى المضللة ضد الإسلام والسعي إلى تصحيح الأفكار المغلوطة التي يغذيها جهل المجتمعات الغربية بحقيقة الإسلام، مشيراً إلى أن تجاوز هذه الحالة من عدم الفهم أو المعرفة يبدأ بضرورة التمييز بين الإسلام كعقيدة ورسالة ودين، وبين ممارسات وأفكار بعض التيارات التي تنتسب للإسلام، وتتستر خلفه أو تكرس للمذهبية الثورية أو الإرهاب والتشدد. و هذا الكتاب ترجمة من الفرنسية إلى العربية وجيه جميل البعيني وراجعه وعلق على مادته التاريخية الأستاذ الدكتور عبدالله بن عبدالرحمن الربيعي كما علق عليه من الناحية الشرعية الدكتور محمد بن عبدالله الفالح ، وفيه استعرض مؤلفه مراحل التطور التاريخي والاجتماعي والسياسي والقانوني للفكر الإسلامي، منذ القرون الأولى للإسلام وحتى اليوم، ليخلص من ذلك إلى أن السلفية الإسلامية تشكل أفضل رد على الانحرافات المتعصبة والمتطرفة وعلى ممارسات التغريب التي تسعى إلى أفكار الحضارة الإسلامية وتأثيرها الفاعل والقوي في مسيرة الحضارة الإنسانية وأنها – أي السلفية - خير تعبير عن وسطية الإسلام وقدرته على التوفيق بين الإيمان بالعقيدة الثابتة والانفتاح على مظاهر التطور عبر ممارسة الاجتهاد الذي يشكل مبدأ الحركة في بنية الشريعة الإسلامية. الوهابية دعوة إصلاحية تعلي من شأن الاجتهاد وترفض محاولات التغريب ويقدم برو من الأدلة ما يؤكد على أن هذا الجهل المصطبغ بالعدائية ضد الإسلام وحضارته في كثير من المجتمعات الغربية ليس بالأمر الجديد، ومن ذلك أقوال لكتاب ومؤلفين فرنسيين، منها ما قاله أرنست رينان مؤلف كتاب " حياة يسوع " من أن الشعوب الخاضعة لحكم الإسلام محكوم عليها بأن تقبع في دائرة التخلف، وأنه لم يوجد مفكرون قط في الإسلام، وكذلك اللاهوتي البروستانتي جاك ايللول الذي ينكر أن يكون الإسلام دينا منزلا. ويعرض برو في المقابل لاجتهادات بعض المفكرين الغرب ممن حاولوا فهم الإسلام وتبني الدعوة إلى التقارب مع العالم الإسلامي وما واجهوه من مشكلات في مجتمعاتهم وصلت إلى حد الاضطهاد والقدح ومن أمثلة ذلك ما حصل مع المستشرق جيوم بوستيل الأستاذ في الكلية الملكية الفرنسية عندما دعا إلى المصالحة والتقارب بين أتباع الدين الإسلامي والمسيحيين, وكذلك المستشرق أندريه دوربيه عندما قام بترجمة معاني القرآن الكريم عام 1647م، ويلفت برو إلى ما قاله فولتير في انتقاد سوء نوايا من يتهجمون على الإسلام والرسول محمد صلى الله عليه وسلم في الغرب، " كم من أباطيل نسبت إليه " للتأكيد على أن الهجوم على الإسلام كانت له أهدافه، ومحركاته في المجتمعات الغربية، وهي ذات الأهداف والمحركات التي تغذي هذه الأباطيل حتى اليوم ويتنافس من يقفون وراء نشرها وتضخيمها والتطبيل لها، ومحاولة الخلط بطريقة ما بين الإسلام والأصولية والإرهاب بما يحقق هذه الأهداف . ويقول برو إن المجتمعات المعلمنة الغربية التي فقدت معالمها الروحية الخاصة تعذر عليها فهم حقيقة الإسلام والسلفية المتسامية، وحاولت أن تقنع نفسها بأن حيوية الإسلام ليست سوى جهل وظلام، مؤكداً أن هذه الدعاوى والأقاويل وجدت ضالتها في أحداث سبتمبر 2001م، لتمارس نوعاً من الدمج غير المبرر وغير المنطقي بين الدين الإسلامي، وأفعال بعض الإرهابيين الذين ينتسبون إلى الإسلام، وتقدم الإسلام بوصفه العدو اللدود الجديد للغرب أو التنين الضخم، الذي يشكل أخطر التهديدات للمجتمعات الغربية بعد انهيار خطر الشيوعية وفي هذا المناخ عمد بعض المدعين إلى الاستخدام العشوائي لبعض العبارات الإسلامية التي تم تحريف معناها بما يحول دون المعرفة الحقيقة لها أو القدرة على فهمها مثل الحنبلية والسلفية والوهابية، حتى أصبحت هذه الكلمات مثالاً للشبهات بعد تشويه معناها. وهكذا استطاع أعداء الإسلام إيجاد ارتباطات وهمية لا أساس لها بين السلفية وبين والتطرف والرايديكالية الثورية متجاهلين الحقائق الناصعة بأن الجماعات المتطرفة التي تمارس الإرهاب لا تمت بصلة إلى السلفية أو الحنبيلية أوالوهابية وأن التنظيمات الإرهابية كانت صيغة لممارسات الخوارج لتحقيق أهداف سياسية، وأن الإسلام لا علاقة له بالتعصب أو التطرف، مثلما لم يكن للمسيحية أو غيرها من الديانات، ارتباط بالأعمال الإرهابية التي ارتكبها بعض من يعتنقونها. ويشير برو إلى أن الأدلة على وسطية الإسلام واضحة وجلية وقادرة على دحض كل المزاعم التي تحاول الربط بين الإسلام والتطرف ولعل منها ما جاء في الحديث النبوي " خير الأمور الوسط "، وأن الدعوة السلفية تعني اتباع منهج السلف الصالح منذ عهد النبوة، وهو منهج يخلو من كل ما يحض على التطرف أو الغلو أو الانغلاق. ويتوقف المفكر الفرنسي بكثير من الشرح والتحليل عند الشيخ محمد بن عبدالوهاب ويكتب تحت عنوان " أصول الإصلاح " أن دعوته الإصلاحية التي انتشرت، تعرضت لكثير من الأكاذيب التي حاولت تصويره " كزعيم مذهبي " وليس مفكراً سلفياً مصلحاً و مجدداً، قاد صحوة لتجاوز حالة الجمود الفكري في فهم الإسلام الصحيح بوسطيته السمحة ومبادئه السامية من أجل بناء دولة إسلامية حقيقية ترفض البدع والخرافات والمعتقدات التي تناقض الدين والعقل معاً في حقبة كانت قد تراجعت فيها جذوره الإسلام والفهم الصحيح لتعاليم الدين. ويوضح المفكر الفرنسي برو أن هذه الحركة الإصلاحية التي ارتكزت على العودة لسيرة السلف التي أصطلح على تسميتها بالوهابية نسبة إلى الشيخ محمد بن عبدالوهاب، حملت في طياتها الدعوة إلى الاجتهاد لمواجهة تحديات العصر وليس بالإرهاب الذي يرتبط بفكر الخوارج وليس بالتغريب الذي يعني فقدان الهوية الإسلامية والتخلي عن القيم الخاصة بالإسلام، بل بإيجاد حلول للتعامل مع المشكلات والمستجدات دون انفصال عن ثوابت العقيدة ومنهج السلف الصالح. ويتطرق سان - برو إلى أن الهجوم على الإسلام والسلفية في الغرب يكشف عن حقيقة العلمانية كايديولوجيا غربية غير شمولية تدافع عن فكرة أن كل دين هو " دين ودنيا " مشيراً إلى أن دعاوى صدام الحضارات ولدت من رحم السياسة الغربية في محاولة لجعل الإسلام " كبش فداء " وتبرير التحركات الاستعمارية في العالم العربي والإسلامي .