دراسة القواعد والمصطلحات الشرعية من أهم المقدمات للحكم على قضية من قضايا المجتمع ، أو غيرها مما يحتاج المسلم إلى معرفته ، ومن يفتش في الأحكام التي يطلقها عامة الناس - وخاصة من لم يؤت حظاً من العلم الشرعي - تجد إطلاق العبارات في التحليل والتحريم جزافاً دون سابق علم بالمصطلح الشرعي وما يدل عليه ، فيطلقون التحريم على كل ممنوع والوجوب على كل مرغوب ، وفي هذا نظر ، بل وفيه خطر إذا توصل الأمر إلى تحريم ما أحل الله ، أو التكليف بما الأصل فيه تساوي الفعل أو الترك ، ومن سمات هذه الشريعة رفع الحرج عن الأمة ، ومن قواعدها : المشقة تجلب التيسير. وقد أدى الجهل بالمصطلحات الشرعية لدى شريحة من المجتمع إلى أن ما يقال فيه بالمنع لمصلحة راجحة فهو في قاموسهم محرم ، وما يؤكد على فعله لأفضليته فهو عندهم واجب ، وما قيل عنه مرجوح فهو عندهم لا يجوز ، حتى أنهم اتهموا طلاب العلم الشرعي بأنهم يحرمون ما أحل الله بسبب جهلهم بتلك المصطلحات وعدم التفريق بين المحرم والممنوع لمصلحة ، وبين الواجب وما تأكد جوازه لفضله ، وبين عدم الجواز والمرجوح ، وبين المكروه والمحرم ، والمستحب والواجب . وهكذا خلطوا بين المصطلحات ، ونسبوا نتيجة هذا الخلط إلى طلاب العلم . وهم بهذا لا يقرون شيئاً اسمه ( سد الذريعة ) فما لا دليل على تركه بنص صريح فهو عندهم من قبيل الجائز ولو ترتب عليه مفسدة ، وما لا دليل على فعله بنص صريح فهو عندهم غير جائز ولو ترتب على فعله مصلحة ، مع العلم أنهم يعترفون بأن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما قام الدليل على تحريمه ، لكن الدليل عندهم محصور في نص الكتاب والسنة دون غيرهما من الأدلة الشرعية كالإجماع والقياس الصحيح ،والمصالح المرسلة التي منها قاعدة درء المفاسد وجلب المصالح . ومن المعلوم أن الأخذ بهذه الأدلة الشرعية لا يتنافى مع دلالة الكتاب والسنة ، ولكنهم حجروا واسعاً ظناً منهم أن هذا من التيسير على الأمة، ولكن العكس هو الصحيح. ومن الأمثلة على ذلك : القول بأن من حج من ماله أفضل ممن حج من مال غيره وحجه صحيح ، فيقول أحدهم عن هذه المسألة : أنتم تقولون بأنه لا يجوز الحج من مال الغير ، فانظر أخي الكريم كيف عبروا عن المفضول بعدم الجواز ، وفي هذا ما لا يخفي من المغالطة والخلط في إطلاق المصطلحات . مثال آخر : القول بعدم السماح للمرأة بقيادة السيارة ، يقولون أنتم تحرمون قيادة المرأة للسيارة والقيادة بحد ذاتها جائزة شرعاً فقد حرمتم ما أحل الله . فانظر أخي الكريم كيف عبروا عن المنع لمصلحة راجحة بالتحريم ونسبوه إلى طلاب العلم ، وهذا خطير جداً ، نتيجة عدم علمهم بقواعد الشريعة . ثم إن القول بالتحريم له وجه آخر يخفى على أولئك ولو لم يوجد النص ، وهو: أن ما أدى إلى محرم يغلب على الظن حصوله فهو محرم من باب الوسائل لها حكم الغايات ، كما أن ما أدى إلى الواجب فهو واجب . وأقول لتلك الشريحة من المجتمع : إذا كنتم لا تؤمنون بشيء اسمه سد الذرائع ودرء المفاسد ، فهل سألتم أنفسكم عن علة تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية ومصافحتها ، وتحريم سفرها بدون محرم ، وعن علة وجوب التقابض في المجلس في بيع الذهب بالذهب ، وبيع الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يداً بيد ، وغير هذا كثير . فوجود الدليل وحده على التحريم لا يكفي مجرداً عن العلة ، لأن الأدلة الشرعية ذات علل وحكم وأسرار منها ما علمناه ومنها ما قصر علمنا عن معرفته ، حتى لا تتهم الشريعة بالعبث في إطلاق الأحكام ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيرًا . وهذا مجاله علم المقاصد الشرعية الذي يخفى عليكم أيضاً معرفته . فالعلة في المثال الأول سداً لذريعة الزنا ومقدماته وتحصيلاً للعفة ، لأنه ما اجتمع رجل وامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما . والعلة في المثال الثاني سداً لذريعة الربا ( ربا الفضل وربا النسيئة ) . وبناءً على ذلك فإني أقول : إن دراسة العلم الشرعي ضروري لكل مسلم ومسلمة ، فالعلوم الأخرى كالطب والهندسة والإعلام والصيدلة والحاسب الآلي علوم نافعة ولكن لا غنى عن معرفة العلم الشرعي حتى لا نطلق العبارات جزافاً، فقد قيل ( فاقد الشيء لا يعطيه ) ، وحتى لا نظلم علماء الشريعة في إطلاقهم الأحكام ، وإذا كنت لا تعلم شيئاً عن قواعد الشريعة وعللها ومقاصدها وإنما حرفي بالنص فقط فالصمت حكمة . ولا تنسى وصية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) . وعوداً على بدء أقول : كل محرم ممنوع وليس كل ممنوع محرم . وكل واجب جائز وليس كل جائز واجب ، وكل محرم مكروه وليس كل مكروه محرم. والله الهادي إلى سواء السبيل. * المعهد العالي للقضاء