لم يكن العقل العربي في حاجة إلى التحرر من قيود التاريخ وعصبيات المجتمع وزيف السياسة وفساد الواقع كما هي حاجته اليوم.. فنحن أمام عقل يدعي الانتماء إلى الإسلام، لكنه في العمق يبتعد عنه قليلاً أو كثيراً في مبادئه وأحكامه ومفاهيمه، ولعل الفتاوى والأفكار والتيارات السياسية التي تتلبس بالإسلام وتصل إلى حد التناقض لا تعبر عن تنوع وغنى في الفكر الإسلامي بقدر ما تعبر عن كثافة التشويه الذي لحق بالإسلام حتى أنه أصبح من اليسير التشريع للفساد السياسي والانحراف الأخلاقي والانحطاط القيمي باسمه، وهو ما أوصل فريقاً منا دون شك إلى تلك الثورات الدائرة.. والاختلاف حقيقة يقرها العقل الإنساني، وحرية الاختلاف لا التشويه تبقى سر الحركة التقدمية وتشرع لواقع التنافس والفعل والإبداع.. غير أن الاختلاف ضل طريقه في لحظات كثيرة وأصبح إدماناً على التشويه تحت عناوين مذهبية وطائفية يتجمد عقل الإنسان عندها، ويتحول الاختلاف المذهبي إن وجد إلى مبرر لاحتقار الإنسان واستئصال الآخر بعيداً عن أية مفاهيم أخلاقية.. والقراءة المتأنية لأسئلة الهوية المصرية التي تعاود لتطل برأسها من جديد مع نتائج الانتخابات البرلمانية التي كشفت في مراحلها الأولى عن تحول في المزاج المصري العام باتجاه التيار الديني بتياراته وروافده الفكرية، أخذت تعبر في بعض ثنايها مع تسونامي المد الثوري بالمنطقة عن كراهية شديدة لثقافة الاختلاف، بل تسعى جاهدة في مواقف كثيرة لاصطناع خلافاتها ولا أقل عداواتها لأن الأمر لن يرقى في يوم ما لذلك المستوى، لكنها بالفعل تجند أقلامها ومفكريها وحوارييها لاصطناع خلاف حول ما تعارف عليه إعلامياً لدى النخبة بالفكر الوهابي، ثم أخذت ترى في أي تيار ديني امتداداً طبيعياً لذلك الفكر رغم ما قد يكون عليه الحال من تباعد حقيقي في المضمون.. لكنها الحساسية المصرية فائقة التصور التي تأخذ نكهة شيفونية وتنكر في الشأن المصري حقيقة أنه انعكاس لكل ما هو عربي.. تغفل أن مصر دولة مركز في النظام الإقليمي العربي وأنها مِلك خالص للعروبة والإسلام وليس فقط لأهلها، تتناسى حجم التأثير والتأثر الذي تمارسه مصر منذ فجر التاريخ في محيطها الإقليمي، وترى في الصعود السياسي للإخوان والسلفيين انسياقاً خلف أفكار آتية من السعودية، في حين أنهم لو قرؤوا "الوهابية" لأدركوا أنها في حقيقة الأمر فكر ثوري إصلاحي وليست فقهاً مذهبيًا جديداً. لقد حظي التيار الديني بمختلف اتجاهاته بقبول شعبي ونتائج صادمة لتيارات التغريب السياسي والمجتمعي والتي تصدرت على مدى سنوات الصفوف الأولى للعمل السياسي بأساليب تزييف الوعي والإرادة السياسية التي انتهجها القائمون على الحكم وبممارسات غير شرعية لأدوار الوصاية والأبوة لمجتمع بلغ سن الرشد منذ فجر التاريخ. نعم مصر لم تكن في احتياج لثورة أو لمن يرشدها وينير لها طريق الحرية والديمقراطية فهي حقيقة من علم البشرية مقاصد الحياة ومعاني التوحيد كما تنطق بذلك جداريات المعابد وصفحات التاريخ. ولو أننا افترضنا جدلاً أن ثورة 25 يناير قد أفرزت عبر صناديق الاقتراع وبإرادة شعبية حرة ميلاً لتمكين التيار الديني من السلطة والحكم ورأت ائتمانه على مصير البلاد فمن المتصور أن تحترم إرادة التغيير التي أقرها المجتمع، ثم من ناحية أخرى أن نقر بان كل مجتمع مسئول عن اختياراته وإفرازاته السياسية والنخبوية، ومن الخطأ بل من الخطيئة أن ينسب الفعل والتأثير لأيّ من كان من المجتمعات والثقافات، لأن ذلك ببساطة شديدة يحط من قدر شعب مصر العظيم وقدرته على إحداث التغيير المرغوب داخله وخارجه. وأتوقف هنا عند طوفان من الكتابات التي نسبت صعود التيار السلفي إلى حفنة من الافتراضات ذات نكهة تآمرية تنظر إلى الفوز السلفي على أنه مدفوع الأجر والتمويل من المملكة وغيرها وتصر بأن السعودية مسئولة عن تسلل الفكر السلفي لصفوف العمل السياسي المصري.. وهى نفس لائحة الاتهامات التي أنصتنا إليها على مدى سنوات طوال من التقارب المصري السعودي، فدائماً المملكة متهمة تارة بتصدير الفكر المذهبي المتشدد، وتارة هي المسئولة عن اعتزال الفنانات، وفي مشاهد أخرى نراها تحتكر المشهد الفني والسينمائي والفندقي والسياحي، ثم هي أيضاً من ينفق المليارات لشراء أصول القطاع العام واستصلاح الأراضي والترويج للقطاع السياحي ، وهي مجموعة من المعادلات المرتبكة التي لم نعهدها في العلاقات مع مصر منذ وصية المغفور له الملك عبد العزيز لأبنائه وأحفاده.. لكنها بكل تأكيد معادلات محسوبة بدقة شديدة تدفع بها رياح الكراهية التي تجوب المنطقة في الآونة الأخيرة آتية من كيانات إقليمية ترى في التقارب المصري السعودي مؤشر خطر لأطماعها.. إن مقولة الهوية التي يتمترس خلفها أقلام عديدة هي في حقيقة الأمر ديكتاتورية النخبة التي تستهدف تثبيت العقل المصري ومنعه من التفكير والإبداع بحرية، وتتحول تدريجياً إلى مقولة مسمومة لا تنتج إلا الجمود والتخلف وتدفعه بعيداً عن طموحه الإبداعي وروحه التحررية.