انتهى الأسبوع الماضي لقاء الحوار الوطني، والذي كان مخصصاً للإصلاح والتطوير في المجتمع السعودي بتوصية واحدة وهي: تشكيل لجنة لصياغة رؤية وطنية واحدة لتحقيق الإصلاح والتطوير. لا بأس في تشكيل لجنة أو لجان من أجل اقتراح آليات محددة للإصلاح والتطوير. لكن أنّى للجان المشكلة أن تقوم بهذا العمل الواسع والممتد. مسألة الإصلاح عنوان كبير تندرج تحته عناوين تشمل كل أو معظم أوجه الحياة. لكن هناك أوليات علينا مراعاتها ثم تأتي الثانويات. ولم أتبيّن مما سمعت وقرأت أن المجتمعين قد اتفقوا على أولويات الإصلاح. علينا أن نبدأ من برامج الإصلاح الملكية، ونحدد مجالات الإصلاح والتطوير التي تنقصنا، وألاّ نُكَبّر اللقمة حتى لا نغص بها. فلنحدد ميدان الإصلاح: أهو في التعليم، أم في السياسة أم في الإدارة أم في غيرها؟ ثم نأتي إلى مسألة التطوير. وهذه مسألة عويصة وممتدة أيضا. فبأي مجال أو ميدان يبدأ المجتمعون التفكير به لاقتراح التطوير. وكان المأمول ألاّ يُربط الإصلاح بالتطوير، فالإصلاح هو إصلاح شيء قائم إذا كان يحتاج إلى إصلاح. والتطوير هو اقتراح شيء جديد ليحل محل شيء قديم أو يلغي بعض أجزائه. فضلاً عن أن الموضوعين كبيران لدرجة أن أحدهما يصلح أن يكون عنواناً لحوار مستقل. أما ما رأيت أنه لزوم ما لا يلزم فهي محاور اللقاء التي جاءت على النحو التالي: مفهوم الإصلاح والتطوير في المجتمع السعودي، الدور المجتمعي لتحقيق الإصلاح والتطوير، والتحديات التي تواجه برامج الإصلاح والتطوير، وأخيراً استشراف مستقبلي للإصلاح والتطوير. وكنت أرغب لو اكتفى المجتمعون بالمحور الرابع فقط. فهو أولاً محور واسع، وهو أيضا محور مهم لبدء عمل خارطة طريق للإصلاح والتطوير. المحاور الثلاثة الأولى تنزع إلى التنظير، وتروم التراكم المعرفي. والصدق أن مجتمعنا لن يأتي بجديد في هذا الشأن. ولا أجد تفسيراً مقنعاً لمحور الإصلاح والتطوير في المجتمع السعودي. وكأننا فعلاً نؤمن بمقولة خصوصية المجتمع السعودي. فالإصلاح والتطوير كلمتان جامعتان تحويان بناء نظريا وآخر عمليا، وقد سبقتنا أمم ودول كثيرة لهذا البناء النظري والعملي. ولا أظن أنه يلزمنا اختراع العربة من جديد. ففكر الإصلاح وحتميته وفلسفته وآلياته قد ترسّخت وتجذّرت في دول كثيرة، وهي ليس من الصعب تصورها الذهني والعملي. على أن المطلوب في ظني هو اختيار أولويات الإصلاح واقتراح آليات تنفيذه، ومعرفة التحديات الخاصة بنا التي قد تعيق الإصلاح أو التطوير. وقرأتُ بعض الشذرات مما نُشر عن اللقاء؛ حيث وردت مقترحات مثل أن متطلبات الإصلاح هي: الصدق والنية الحسنة والاعتراف بالخطأ. أليست هذه المفردات تحصيل حاصل؟! وهو ما جعل بعض المراقبين يصف اللقاء بالخطابية. نعم مشكلتنا في المملكة وفي غيرها من دول العالم العربي هي التنظير الزائد على الحد. لسنا في هذا الوقت تحديداً في حاجة لأن نستمع إلى دروس أولية في مسألة الإصلاح والتطوير. نحن نلوك هذه المسائل وغيرها منذ زمن ليس باليسير. ومع هذا لازلنا في المربع الأول. وقرأتُ أن من التحديات التي تواجه الإصلاح: العمل الفردي غير المؤسسي وعدم الشفافية وعدم الإفصاح عن المفسدين المتورطين في قضايا الفساد. أليست هذه المفردات نعرفها من ديننا منذ خمسة عشر قرناً؟ وقرأتُ أن المجتمع عليه أن يبدأ الإصلاح، واقترح آخر أن البداية من الدولة. وتذكرت جدلية أثينا: الدجاجة قبل أم البيضة. وجملة القول إن الحديث تشعب في اللقاء تشعباً أضاع معه فكرة اللقاء الجميل، ونية المركز الأجمل. على أن المنهج وتحديد الأولويات كانا شبه غائبين. وهذا أمر معروف ومعذور أصحابه بسبب كثرة المسائل التي على أجندة اللقاء، وقصر المدة الزمنية لكل متحدث. في وقتنا الحاضر بدأ خادم الحرمين الشريفين فكرة الإصلاح، وهو كقائد سياسي للبلاد اقترح وقدم برامج إصلاحية وتطويرية شملت التعليم والقضاء والصحة والمرأة وغيرها، ما جعله بحق عراب الإصلاح والتحديث في بلادنا. لاقت برامج خادم الحرمين قبولاً وممانعة. هذه هي البداية الصحيحة ولا ضير في ذلك. كذلك الإصلاح والتطوير مسألتان لا خيار فيهما، فهما مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً ببناء الدولة واستمرارها. وأكاد أقول إنهما مثل القطارين السريعين إذا لم تقفز الدولة والأمة فيهما، فاتهما القطاران، وعليهما التوقف الذي هو في المفهوم السياسي صنو الموت. ومن تجارب بلدنا أن الدولة أكثر انفتاحاً وقبولاً للتنوير والإصلاح من شعبنا. يرى بعض المختصين أن هذه ظاهرة شاذة. وأقول هي ظاهرة صحية، لأن الدولة بيدها المعلومة، وبيدها النظرة الواسعة، وفي غياب مؤسسات مجتمع مدني متعدد المشارب، يظل العبء على الدولة لأن تقود عموم الشعب إلى الشاطئ الآمن. وبالتالي وحسب تجاربنا منذ عهد المؤسس رحمه الله فإن البرامج الجديدة التي شملت معظم أوجه الحياة جاءت من القمة وبقرار سياسي. علينا أن نبدأ من برامج الإصلاح الملكية، ونحدد مجالات الإصلاح والتطوير التي تنقصنا، وألاّ نُكَبّر اللقمة حتى لا نغص بها. فلنحدد ميدان الإصلاح: أهو في التعليم، أم في السياسة أم في الإدارة أم في غيرها؟ على أنني أميل إلى أن الإصلاح السليم والمستمر هو أن يبدأ من القاعدة ثم يتدرج صعوداً. ثم يأتي القرار السياسي. ذلك أن الأخذ بالإصلاح يحتاج من يُفعّله ، وأن يُنظر إليه على أنه من متطلبات التنمية الإدارية، بحيث لا تستغرقنا النظريات والرؤى، ولا تعوقنا التحديات والممانعة.