في كل مرة تجلس "أنمار" -تخصص طب- في "مقهى الجامعة" تقرأ كراسة ملاحظاتها، وترمق المارة من الطالبات، لتلمح فتاة اعتادت أن ترتدي معطفاً أسود عند باب المقهى، تقرأ كتاباً في الأدب، دون أن تعير اهتماماً لأحد، إنها تفعل ذلك في كل يوم دون أن تسأم، بل ولا يفصلها عن ذلك العالم سوى القهوة التي كانت ترشفها بين الحين والآخر، في أجواء باردة تضفي على المكان حميمية غير مفهومة، كان ذلك المشهد والتأمل لتلك الطالبة يدفعها لشعور بالسعادة والقبول، فلم تعرف "أنمار" الأسباب التي تدفعها تجاه تلك الطالبة، بل وشعورها أنها قريبة منها، وأنها تتقاطع معها في محطات مشتركة كثيرة، ولم تعرف "أنمار" السر في ذلك القبول الكبير تجاه طالبة في الجامعة لا تعرف حتى اسمها سوى..!، وربما مع مرور الوقت أصبحت تشعر أن هناك اهتماماً مشتركاً بينها وبين طالبة المعطف الأسود، التي كانت في كل مرة تكتفي برفع رأسها من الكتاب الذي تقرأه وتبتسم لها، ابتسامة خافتة سرعان ما تعيد نظرها إلى كتابها، حتى قررت "أنمار" أن تقتحم عزلة تلك الفتاة وتبادرها بالتحية وتطلب منها التعرف عليها، وحينما نهضت من المقعد لتتوجه إليها، نهضت تلك الطالبة أيضاً وكأنها قررت في ذات اللحظة أن تتجه لها لتتعرف عليها، لتعبر "أنمار" بقولها بعد أن صافحتها: "لا أعرف لماذا أشعر براحة عجيبة، وشعور جميل تجاهك، كمن لو أنني كانت أعرفكِ من قبل"؟. لا يعرف المرء في الكثير من المواقف لماذا حينما يلتقي بأناس جدد في الحياة يشعر أنه لم يتجانس معه، أو لم يقبله، أو لم يرتح إليه، أو لم يستطع أن يقترب منه، أو ربما شعر بالتحامل صوبه دون أسباب واضحة، بل إنه للمرة الأولى في الحياة يلتقيه، فكيف ولماذا لم يقبله أو لم يرتح إليه كما يعبر بها البعض؟، لا يعرف أسباب حقيقية لذلك!، وذلك ما ينطبق على من نقبلهم في الحياة ونشعر بأنهم قريبون منا، بل وربما تناولنا الأحاديث الكثيرة معهم وضحكنا، وربما أفضينا بالكثير من خصوصياتنا لهم، وكأنهم أصدقاؤنا المقربون، وربما عبر البعض عن ذلك بقوله: "ارتحت إليه، كأنني أعرفه من زمان"!. "الرياض" تطرح الموضوع لمعرفة الأسباب التي تدفعنا لأن نقبل أناساً دون آخرين، خاصةً حينما نلتقيهم للمرة الأولى، مع كشف السر الخفي الذي يدفعنا للانجذاب نحو أشخاص لا نعرفهم، بل وربما لم نتحدث معهم إطلاقاً، وكأن هناك لغة غير مفهومة تحدث بيننا. غير مبرر في البداية قالت "رباب سعد": أنه من الطبيعي أن يقبل الإنسان أناساً منذ الوهلة الأولى، وقد يرفض البعض منهم، مضيفةً أنها لا تعرف متى وكيف يحدث ذلك، مستشهدةً بشعورها الذي أحسته تجاه فتاة شاهدتها برفقة صديقتها، حيث شعرت من الوهلة الأولى أنها لم تقبلها، على الرغم من محاولة صديقتها الدائمة إثبات أن تلك الفتاة تستحق أن تتقرب منها بصداقة متينة، إلاّ أنها كانت تشعر أنها لم تستطع أن ترتاح لها، مشيرةً إلى أن تلك الفتاة حاولت أن تتقرب منها ولكنها كانت تصدها، ذاكرةً أن بداخلها شعور غير مبرر من الرفض لها، وحينما تسألها صديقتها عن أسباب ذلك الرفض لا تعرف أن تجيبها، مبينةً أنها إذا عرفت أن تلك الفتاة موجودة في مكان ما، فإنها تحاول أن تعتذر عن المجيء؛ لأنها لا تسعد حينما تلتقي بها!. صدق الحدس ويتفق معها "فهد عبدالله" الذي بدأ يشعر بعدم قبوله لزميله في العمل، منذ اليوم الأول الذي التحق فيه في فرع الشركة التي يعمل فيها، فعلى الرغم من أن ذلك الزميل لم يبادر بإساءة إلاّ أنه كثيراً ما يشعر بعدم القبول له، مبرراً ذلك بقوله: "أشعر أنه ثقيل دم وغثيث، كما أن به لقافة لا أحبها وتطفلا على الآخرين"، موضحاً أن الأشخاص الذين لا نقبلهم في الحياة كثيراً ما يصدق الحدس فيهم، إما أن يكونوا متطفلين، أو قيمهم في الحياة تختلف عن قيمنا، أو ربما يتصرفون بشكل لا نقبله، لذلك يحدث أن ترتفع الروح إلى مرحلة الحدس الذي يرشد الإنسان إلى تقييم صادق عن بعض الأشخاص وربما ذلك ما يبرر شعورنا الدائم تجاه أفراد نشعر بالقبول لهم منذ الوهلة الأولى، في حين قد نشعر بالنفور من آخرين أيضاً. مشاعر سلبية وتختلف معه "أشواق النجيب" التي ترى أن هناك الكثير من المشاعر السلبية التي لا نشعر بها تجاه الآخرين، قد لا يكون لها مبرر أو مصداقية، مستشهدةً بشعورها الذي شعرته تجاه فتاة ألتقتها عند الجارة، وقد شعرت بالنفور منها وعدم الارتياح، حتى أنها لم تفهم لماذا تشعر تجاهها بشيء من العدوانية، إلاّ أنه مع كثرة الالتقاء اكتشفت في تلك الفتاة صفات جميلة حتى تحولت تلك التي لم تقبلها إلى أقرب صديقة لها، مشيرةً إلى أن كثيراً ما نشعر بالنفور من البعض ونفاجأ أن من اتخذنا منهم موقفاً بالرفض في بداية معرفتنا بهم تحولوا إلى أصدقاء، متوقعةً أن يكون ذلك النفور ممن نلتقيهم في الحياة للمرة الأولى أسباباً نفسية ربما تتعلق بتجارب الإنسان، وربما تتعلق بسلوك المرء نفسه، فهناك من الشخصيات من يدفعك لعدم قبوله بتطفله الدائم عليك، على الرغم أنه لأول مرة يلتقيك، فيبدأ بسؤالك: "ماذا تعمل"؟، و"هل أنت متزوج أم لا"؟، أو "هل تعمل زوجتك"؟، "كم راتبك"؟، أو "كم عدد أبنائك"؟، والكثير من الأسئلة الخاصة التي تؤدي إلى نفور المتلقي، ذاكرةً أن هناك أشخاصاً ليسوا متطفلين، ولكن شخصياتهم مسطحة وثرثارة، وربما ارتبط بتعليقات ليس لها داعٍ أبداً، فيتولد هنا عدم القبول. أنماط كثيرة ورأت "د.شيخة العودة" -مستشارة في التنمية الاجتماعية والأسرية- أن المتلقي يتصف بعدد من الأنماط الكثيرة التي تميزه عن غيره منذ أن كان جنينا في بطن أمه حتى أصبح طفلاً، ثم شاباً، يكتسب من خلالها مجموعة من الأنزيمات سواء كانت تلك الأنزيمات من الأب أو من الأم أو من الاثنين معاً، تلك الأنزيمات تحدد مدى قبولنا لأشخاص في الحياة دون آخرين، مضيفةً أن من نقبلهم للوهلة الأولى قد تكون تجاههم أنزيمات مكتسبة من الأب -مثلاً- تقبل هذا النوع من الأشخاص في الحياة، ومن نرفضهم ولا نقبلهم على الرغم من معرفتنا الأولى لهم قد تكون نتيجة أنزيمات مكتسبة من الأم، والتي كان لديها تحسس من هذا النوع من الناس، مشيرةً إلى أن الإنسان قد يقبل الناس وقد لا يقبلهم بناء على نوع الأنزيمات التي حملها من والديه، فتؤثر في تقييمه وقبوله ورفضه للآخرين، موضحةً أن الإنسان عليه أن يُحَكم دائماً عقله في الأمور، وأن لا يتخذ من الآخرين موقفاً غير جيد، بل ويسيء إليهم لمجرد أنه لم يقبلهم، فيتصرف بناء على ذلك القبول أو ذلك الشعور، ذاكرةً أن العرب منذ القدم تميزوا بالفراسة والتي كانوا يقيسون عليها جميع شؤونهم في الحياة، إلاّ أن تلك الفراسة لم تعد موجودة إلاّ ما ندر لدى البعض. ضحية سهلة وشددت "د.شيخة" على أن الحكم على الآخرين لابد أن يأتي من خلال المعرفة والمعاشرة لهذا الشخص، وليس من خلال الحكم المبدئي عليه، ثم بناء المشاعر والتحامل عليه من خلال ذلك القبول أو الرفض، مؤكدةً على أن تلك المشاعر المصحوبة بالقبول أو الرفض هي من تجعل البعض يقع في الأخطاء، وربما كانوا ضحية سهلة لإساءة الآخرين لهم، وذلك ما ينطبق على الفتاة التي تقول أنها ارتاحت لشاب منذ أول نظرة، ثم بعد أن تكون ضحية لأفعاله تكتشف أنها كانت مخدوعة فيه، مشيرةً إلى أن مثل هذه الفتاة تعتقد أنها تعرفت على هذا الشاب جيداً بالقبول، لكنها في الحقيقة لم تعرفه، لتثق به، ليصبح ليس بذلك القدر من الثقة، ناصحةً أنه من الأهمية أن نبني مواقفنا تجاه الآخر ليس من منطلق ما نشعره تجاهه، بل من خلال مانعرفه عنه.