ثمة حقيقة لا يعرفها إلا من امتهن حرفة الكتابة وحب القراءة قبل الكتابة وأثناءها.. وهي ان الحديث والكتابة عن النفس والذات من أصعب الأمور.. ففي هذه الحالة يبث ويبوح الكاتب بأحاسيس ولواعج خفية (قد) يُقحَم القارئ بها حيث لا تعنيه البتة.. فلا تؤثر فيه.. أو أن القارئ (ببساطة) لا يتفاعل مع ما يذكره الكاتب.. وقد يُرجع ذلك إلى نرجسية الكاتب أو جلداً للذات مقيت.. أو كما علق قارئ عزيز على سوانح ماضية بأنها (جابت له الهم) لذا يلجأ الكاتب لاستعمال الرمز أو الترميز وضمير الغائب والمبني للمجهول.. للتغلب على إشكالية الكتابة الذاتية تلك.. ويعلم الله انني عندما أكتب في كل سانحة من السوانح وقبلها في غرابيل منذ عقدين من الزمان أو يزيد.. وغيرهما.. كنت أريد (ولا أزال) رسم ابتسامة على شفتي من يقرأ لي أو تذكر وتأمل بعفوية وبوح (ماضٍ مضى) يحمل عبق المكان والزمان (اللي راح) وشجونه وتداعياته.. أخطها بإيحاء من (عفو الخاطر) بيراعٍ أثقَلَهُ المداد.. ماعلينا.. وأبدأ الحلقة الأخيرة من الجُرح ب(فلاش باك) كما يقال لربط ما مضى بما سيُروى أو سيأتي.. حيث توقفنا في سوانح الماضية عندما ذهبت أم الطفل الجريح لمنزل الزوجية الجديد وتركت ابنها وحيداً.. لينتقل في اليوم التالي لمنزل أبيه بعد أن أتى عمه الكبير لأخذه في عصر يوم لن ينساه الطفل الجريح أبدا.. لتمر عليه السنون ثقالاً بعيداً عن أمه.. حيث لا يتمكن من زيارة ورؤية أمه إلا مرة واحدة كل أسبوعين.. وذات عصر يوم آخر (غير يوم خميس) استدعت الطفل الجريح جدته لأبيه وطلبت منه أن يذهب لبيت (جده لأمه) ويبقى عندهم أسبوعاً كاملاً.. وعندما سألها باستغراب وابتهاج عن السبب.. قالت له عندما تصل هناك ستعرف السبب.. وعلى غير العادة استقبلته أمه في منزل جده.. فهو في معظم الحالات يصل لبيت جده قبل أن تصل أمه بصحبة زوجها أو انهما قد أتيا للتو من منزلهما.. استقبلته أمه واحتضنته وهي تبكي بحُرقة.. وعندما سألها الطفل الجريح عن السبب قالت ان جده انتقل إلى رحمة الله.. كانت ردة الفعل لديه غريبة.. فلم يستوعب أو يعرف ماذا تعني أُمه بقولها انتقل أبي إلى رحمة الله (أبوي مات) أو ماهو الموت!؟.. كان شعوره آنذاك تساؤلاً واستغراباً انتهى بابتهاج وفرحٍ.. فمنذ وعي الحياة.. منذ زواج أمه.. سيمكث بالقرب من أمه أسبوعاً كاملاً.. وكبر الطفل وأصبح أباً.. وبالأحرى أصبحت أنا جداً لأطفال.. إلا ان الجُرح لم ولن يندمل أبدا.. وتحية لكل من قرأ الجُرح وتفاعل معها.. وبالأخص من عرف (منذ الحلقة الأولى من الجُرح) ان الطفل ذي السنوات الخمس المعني في الحكاية.. هو من روى الحكاية.. وإلى سوانح قادمة بإذن الله.