صخب الشارع لم يحُل دون التنقل بين مشهدين.. سيدة الحضور الطاغي والكيان المتهدم.. زوار الفجر الجناة على التاريخ والإنسان وثوار التحرير... الرجل ذو البدلة البيضاء الشركسكين في ليالي القاهرة الخديوية.. والعشوائية الخانقة التي لم توهن ظلالها الثقة بأن خط التاريخ صاعد لامحالة مهما تعرض لنكسات في مساره الطويل بعد تسعة أشهر على الثورة المصرية، وبعد تلك الايام التي قُدِّر لي أن أشهد فيها اندلاع الثورة في القاهرة. كان ثمة زيارة أخرى في محاولة للاقتراب من مرحلة تشكّل التطور الأخطر والأهم في حياة مصر منذ ستين عاماً. تضعك الأقدار أمام مشهد ربما لا تراه مرة أخرى. كان ثمة حنين لاكتشاف تحول لن يتأتى بسهولة، ناهيك عن أن من طبيعة التحولات الكبرى أن تشهد مخاضا قاسيا حتى تستقر على مشهد يمكن الوثوق بقراءة مساره.. أو تقفز لمشهد آخر مختلف. الانطباع الأولي، أن مصر لا تذهب بعيداً. ثمة مخاض ولكنه مرتبك ولا يوحي بالثقة بقراءة نتائجه. ومهما بدأت الارتكابات أو الحوادث المتفرقة هنا وهناك... ومهما بدا صخب الإعلام وحضوره ومعاركه وتفاعلاته، ومهما بدا أن الحياة السياسية في مصر تضخ مزيدا من الوقود والحراك في أوردتها... إلا أن السلوك العام وطبيعة التعاطي مع اليومي لم يجريا على تغيير يوحي بأن ثمة ثورة عاصفة مرت من هنا. الحياة تمضي كما كانت. ثمة اختناقات في مفاصل الحياة، وشكوى مرة من الركود الاقتصادي، لكن ثمة أمل وثمة حلم فقط. من يقرأ ملامح الصورة سيجد أن طاقة من الصبر والتفاؤل لا تخفي أيضا قلقا كامنا لدى كثيرين. مصر ليست فقط نخباً سياسية ومثقفين وناشطين انهمكوا في هذا الفصل المرهق استعدادا لانتخابات قادمة. وليست كذلك أحزاباً ونخباً تصارع من أجل استعادة الثورة لمسار التغيير. مصر رجل الشارع والموظف والعاطل والغالبية العظمى التي ربما لا تدرك إلى أين ستمضي بها هذه المرحلة... يتراخى الوعي أحيانا لدرجة الذبول.. ويصحو فجأة أمام طاقة هائلة على الصبر والاسترسال في غد الاحلام. وبقدر أهمية لقاء بعض الاصدقاء الذين يواصل بعضهم ليله بنهاره في مرحلة فاجأتهم وهم يحشدون قواهم في هذا الحزب أو ذاك من أجل استحقاق الانتخابات القادم، قدر ما كان من المهم اكتشاف الوعي الكامن في بساطة مجموع يلاحق يومياته. هذه الغالبية الصامتة والصابرة ربما لم تدرك أنها وحدها من يقوى على رسم ملامح المستقبل مهما بدت رؤية النخب لمستقبل عملية سياسية مرتبكة ومحفوفة بكثير من الأخطاء بعد عقود من التوقف والعطالة. وفي هذا المشهد تبدو حظوظ الإسلام السياسي هي الأوفر في الانتخابات القادمة. لم تعد لغة الاحزاب الليبرالية واليسارية والقومية تخفي هذا التوقع أو تقلل من أهميته. وربما كانت تلك التفاعلات التي أعقبت فوز حزب النهضة التونسي مؤشرا إلى أن مصر ستكون المحطة الثانية التي ستحقق هذه النتيجة كما كانت هي محطة الثورة الثانية بعد تونس. في مصر اختفت كارزيمات القيادة عن سطح المشهد. ومهما بدت محاولات جس النبض في استعادة ملامح شخصية عسكرية لمنصب الرئاسة القادم.. فهي تواجَه بكثير من الاستهجان والرفض. أما حالة اللاثقة بين المؤسسة العسكرية والقوى السياسية، وبين القوى السياسية نفسها فحدث ولا حرج. ثمة خوف حقيقي من نصف ثورة تتحول إلى مجرد ترميم نظام قديم باسم الثورة. ورغم أن أحداث ماسبيرو المؤلمة لم يمضِ عليها سوى أسابيع قليلة، إلا أن مصر لا تمضي بعيدا في مشهد التوتر وبسرعة تستعيد الحياة طبيعتها. هل هي طبيعة تكوين الشعب المصري، الذي يفجر طاقته فجأة ثم ينسحب من المشهد وكأن شيئا لم يحدث، كما صنع شبابه ثورتهم التي أذهلت العالم ثم اختفى في عالم اليومي المرهق. هل هذا يفسر طبيعة وسلمية الشعب المصري مهما بدت ملامح الرفض أو الاحتجاج؟ لم تخلُ هذه الرحلة من زيارة للتاريخ... لكنها زيارة مختلفة. وبرفقة صديق مهتم بالنشر ذهبت لزيارة السيدة اعتماد خورشيد. كان حديثاً حول كتابها الجديد: شاهدة على انحرافات صفوت الشريف. ومنذ قرأت كتابها في الثمانينيات "شاهدة على انحرافات صلاح نصر"، كنت أتوقف مشككاً أمام رواية تاريخية صادمة وتكشف أبعادا خطيرة في انحراف مؤسسة أمنية في ظل نظام عبدالناصر الشمولي والمستبد. سيدة ارستقراطية تحولت إلى كيان متهدم تحمل على كتفيها عبء سبعين عاما. لا شيء يوحي بذلك الماضي. حتى الملامح لم تعد فيها ومضة او بريق او ما يوحي بأن هذه السيدة كانت اعتماد خورشيد .. لم تعد هناك فيلا الهرم ولا الخدم ولا الحياة الأنيقة ومعمل التصوير الاشهر حينذاك. هناك فقط ألم دفين وتجربة مرة وذكرى مؤلمة. كانت تشغلني أسئلة كثيرة.. من بينها إلى أي مدى تبدو تلك الصورة التي رسمتها في كتابها القديم حقيقة أو دقيقة. لم توفر لحظة واحدة تدفقت بلا حساب وبذاكرة لا تتجاهل حتى التفاصيل الصغيرة... لتؤكد ان ما روته في كتابها حينذاك الذي شكل صدمة ومفاجأة لكثيرين كان أقل من الحقيقة، وأن ما عاشته وأدركته وعرفته وعانته من جبروت وظلم وقسوة ونزوات صلاح نصر وجهازه الذي عذب ولاحق وسجن ولفق التهم ليس فقط لحماية النظام من المعارضين أو الناشطين السياسيين، ولكن أيضا من أجل شهوات ونزوات رجالات الحكم والنافذين فيه. أما كتابها الجديد فهو وثيقة تضم محاضر تحقيق لم يفرج عنها منذ تلك المحاكمة بعد نكسة 67 حول انحرافات المخابرات المصرية. كنتُ أمام ذاكرة حية وجريئة في سرد التفاصيل. ذهبت في حشد ودعم روايتها لمرحلة خطيرة إلى حد استنزاف الألم أو استدعاء القرف. من المشير إلى وزير الداخلية الى مدير الاستخبارات التي يعتبر مهندس مرحلة الفحش والانتهاك إلى عمليات الكنترول والسيطرة على الممثلات والفنانات وسواهن .. والإخضاع المستمر لتلبية نزوات ورغبات شاذة .. وفي تلك الاوضاع هل من الغريب ألا تحدث هزيمة او كارثة 67؟! فهؤلاء هم رجال الهزيمة القاسية المرة. لم يكن يبارح ذهني سؤال يتردد كل حين اثناء روايتها لتجربتها وعلاقتها بجيل كامل من الفنانين والفنانات بحكم عملها.. ثم بحكم سيطرة صلاح نصر على حياتها. ألم يكن عبدالناصر الذي كان يطلع على كل كبيرة وصغيرة يعرف بهذا الدور المشين الذي مارسته المخابرات المصرية في تلك المرحلة. وهذه الانحرافات التي أصبحت فيما بعد قضية يحاكم عليها بعد هزيمة 67 وانتحار المشير عبدالحكيم عامر. هل كان يعرف ويتجاهل أمام الدور الذي تؤمنه تلك المخابرات لحكمه؟ أم أن هزيمة 67 وتغطيتها تتطلب محاكمة صلاح نصر المقرب من المشير ومجموعته؟ أم السبب يعود لما قيل عن المحاولة الانقلابية على عبدالناصر. قالت: لا لم يكن يعرف. كان يقول لي عندما التقيت به لأول مرة كشاهدة على تلك الانحرافات هل سأضع مخابرات على المخابرات: لقد أوهموني أنني دائما في دائرة الخطر وحجبوا ما يريدون حجبه. تقبلت إجابتها مع عدم قدرتي على الوثوق بها. فمن قرأ عن شخصية عبدالناصر واهتمامه بالتفاصيل الصغيرة ربما يدرك أنه لم يكن يخفى عليه ان ثمة أخطاء بل خطايا كبرى تمر في سراديب أجهزته الامنية. كما لم يخف عليه سلوك المشير الذي كان قائداً للقوات المسلحة حينذاك. خرجت الى شارع البرازيل في حي الزمالك.. توقفت لبرهة أمام تلك البناية القديمة أستعيد حضور مرحلة مازالت تحمل مصر عبئها منذ ستين عاماً. صخب الشارع لم يحل دون التنقل بين مشهدين.. سيدة الحضور الطاغي والكيان المتهدم.. زوار الفجر الجناة على التاريخ والانسان وثوار التحرير... الرجل ذو البدلة البيضاء الشركسكين في ليالي القاهرة الخديوية.. والعشوائية الخانقة التي لم توهن ظلالها الثقة بأن خط التاريخ صاعد لامحالة مهما تعرض لنكسات في مساره الطويل..