ما يُمكن قوله خلاصة هو أن القرصنة البحرية، في بحر العرب والمحيط الهندي، تمثل اليوم معضلة استراتيجية، تتداخل أبعادها الأمنية والاقتصادية والسياسية على نحو وثيق. وعلى المجتمع الدولي تعزيز جهوده وتنسيقها، بأقصى قدر ممكن، لمواجهة هذا التحدي والتغلب عليه في الرابع والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 2011، أصدر مجلس الأمن الدولي بالإجماع القرار الرقم (2015)، حول القرصنة البحرية في خليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندي. وتناول القرار، على وجه التحديد، قضية محاكمة القراصنة، وسبل إنشاء محاكم محلية لهذا الغرض، في الصومال والدول المجاورة. وحث القرار الدول والمنظمات الدولية على تبادل الأدلة والمعلومات لأغراض إنفاذ قوانين مكافحة القرصنة، بغية ضمان الفعالية في محاكمة المشتبه فيهم، وسجن المدانين منهم. وكان المجلس قد أصدر في السابع والعشرين من نيسان/ أبريل عام 2010، قراراً أولياً قضى بإنشاء محاكم خاصة للقرصنة، لسد فجوة في الجهود الدولية على هذا الصعيد. وقد تعطلت محاكمة القراصنة المعتقلين بسبب الخلافات بشأن الدولة التي يُمكن أن تحاكمهم. وتفتقر الصومال ذاتها إلى البنية الأساسية القانونية لإجراء مثل هذه المحاكمات. وقبل أيام من القرار الأخير لمجلس الأمن الدولي، وتحديداً في الثامن عشر من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، قال المكتب البحري الدولي إن القراصنة هاجموا عدداً قياسياً من السفن، في مختلف انحاء العالم، خلال الاشهر التسعة الاولى من العام 2011. ووفقاً للمكتب الدولي، فهذا الرقم هو أعلى من أي رقم آخر سجل في الفترة ذاتها، من أي عام مضى، على الإطلاق. وسجل المكتب 352 هجوماً على السفن التجارية، بين كانون الثاني/ يناير ونهاية أيلول/ سبتمبر، مقارنة ب 289 هجوماً في الفترة ذاتها من العام 2010. وقد حاول القراصنة اختطاف 199 سفينة في مختلف انحاء العالم، على مدار الاشهر التسعة المذكورة، إلا أنهم تمكنوا من السيطرة على 24 سفينة فقط، مقارنة ب 35 سفينة اختطفوها، في الفترة نفسها من العام 2010. ويرجع انخفاض حالات الاختطاف إلى تحسّن مستويات الحراسة والأمن في السفن التجارية، وزيادة حجم الدوريات البحرية المسلحة. وإضافة إلى تراجعها في منطقة بحر العرب، تراجعت عمليات القرصنة كذلك في مياه آسيا والباسفيك، بما في ذلك مياه شبه القارة الهندية. وسجلت 87 حةادثة خطف في الشهور التسعة الأولى من العام الجاري، مقارنة ب 106 حوادث في الفترة نفسها من العام 2010. وكان العام 2009 قد شهد 406 هجمات للقراصنة، وهو رقم قياسي لم يحدث خلال ست سنوات. ووفق المكتب البحري الدولي، فإن عمليات القرصنة بالقرب من سواحل الصومال مثلت أكثر من نصف جرائم القرصنة، التي أُبلغ عنها على مستوى العالم في العام 2009 . وتقريباً كل جرائم الخطف ، مع نجاح القراصنة هناك في تنفيذ 47 عملية خطف. واستناداً إلى تقارير دولية، فإن عصابات القراصنة العاملة قرب السواحل الصومالية حصلت على فدى تجاوزت 60 مليون دولار عام 2009، مقارنة مع 55 مليون دولار عام 2008 ، وأنها تحافظ على نفس المستوى في العام 2010. وفي العام 2008، وصل إجمالي حوادث القرصنة المسجلة في بحر العرب ما مجموعه 293 حادثاً. وكان نصيب الثلث الأخير من ذلك العام 83 حادثاً، مقابل 63 في الثلث الثاني، و53 في الثلث الأول. وكان هناك 111 حادثاً في خليج عدن وحده. وقد أسفرت تلك الحوادث عن أسر 581 فرداً من أطقم السفن التجارية: تسعة قتلوا، وسبعة اعتبروا في عداد المفقودين، يُرجح أنهم ماتوا. ويعتبر خليج عدن "مركز الجاذبية" للقراصنة، إلا أن الفترة الأخيرة شهدت زيادة في الهجمات، بعيداً عن سواحل الصومال. وتمخر هذا الخليج سنوياً 16 ألف سفينة، محملة بالنفط والبضائع من الشرق الأوسط وآسيا إلى أوروبا والأميركتين. وقد أدى الغياب طويل الأمد للاستقرار السياسي والأمني في الصومال، وتفشي ظاهرة القرصنة انطلاقاً من أراضيه، إلى اضطراب حالة الأمن في الذراع الغربية لبحر العرب، سيما قاطعه الجنوبي. كما رمت أوضاع الصومال بتداعياتها على الحركة في مضيق باب المندب، وعكست نفسها تالياً على أنشطة الملاحة في قناة السويس، المرتبطة عضوياً بوضع هذا المضيق. وقد تواجه قناة السويس هي الأخرى خطراً استراتيجياً، من شأنه أن يرمي بتداعياته على الوظيفة الجيوبوليتيكية للدولة المصرية، وعلى إيراداتها المالية، واستتباعاً دورها الإقليمي والدولي. وبالنسبة للدول النفطية في الخليج العربي، لا توجد لديها الكثير من الخيارات الملاحية. كما أن خيار الدوران حول رأس الرجاء الصالح لا يضمن عدم وقوع القوافل ضحية لعمليات القرصنة، إذ يمكن مهاجمتها إبان سيرها في بحر العرب باتجاه سواحل الشرق الأفريقي. وفي مؤشر على تعاظم التحديات، سجلت الجهات الدولية وقوع عدد من عمليات الخطف قرب جزر سيشل على بعد مئات الكيلومترات من الصومال.وهناك هجمات وقعت قرب الهند، وفي قناة موزامبيق، ما وضع المحيط الهندي بأسره في حالة خطر كبير . ويعتبر إقليم بونت لاند، الصومالي، ذو الحكم الذاتي، المركز الأساسي لانطلاق عمليات القرصنة في بحر العرب ومناطق أخرى من المحيط الهندي. ويعتقد البعض أن مشكلة القرصنة من المشاكل الرئيسية التي يمكن أن تؤدّي إلى تفكك هذا الإقليم سياسياً وأمنياً. وإن عصابات الجريمة في بونت لاند ليست متورطة في القرصنة فقط، بل أيضاً في نشاطات من قبيل تهريب البشر. وقد ساد اعتقاد من ناحية أخرى أن جماعات سياسية داخل الصومال متورطة في بعض نشاطات القرصنة. وقال البعض إن كابوس الغرب الصومالي بات يتمثل الآن في إمكانية الاتحاد بين القراصنة ومجموعات العنف السياسي. وتشير التقديرات الدولية إلى أن هناك نحو 800 عصابة للقراصنة، تنطلق من ساحل طوله 3000 كيلومتر. وتتكون خلية القراصنة، في أغلب الأحيان من عشرة أفراد، يصطحبون معهم مياها للشرب ويعتاشون على السمك الخام، وغالباً ما يمارسون مضغ القات. ويحمل القراصنة معهم الغازولين، كوقود لمراكبهم، ذات المحرك الواحد. وسلالم للتسلّق إلى السفن المراد خطفها. وهم يتسلحون بسكاكين وبنادق هجومية، وقذائف صاروخية. ويستخدم القراصنة الزوارق الصغيرة لشن هجوم على المراكب الأكبر قليلاً. وفي وقت لاحق، يتم استخدام بعض مراكب الصيد المختطفة للهجوم على سفن أكبر حجماً، هي سفن الشحن التجارية. في بدايات التحرك الدولي، ذي الصلة بأمن الملاحة في بحر العرب، صادق مجلس الأمن بالإجماع، في الثاني من حزيران/ يونيو من العام 2008، على القرار الرقم (1816)، الذي منح الدول حق إرسال سفن حربية إلى مياه الصومال الإقليمية لمكافحة القرصنة. أما القرار الرقم ( 1838)، الصادر عن مجلس الأمن الدولي، في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر من العام ذاته، فقد نص على السماح للدول باستخدام كلٍّ من الأساطيل الحربية والطيران الحربي لمكافحة القراصنة. وفي السادس عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2008، تبنى مجلس الأمن الدولي بالإجماع القرار الرقم ( 1851)، الذي يسمح بعمليات دولية برية، ضد القراصنة داخل أراضي الصومال. وفي الأصل، فإن القانون الدولي يحدد الإطار القانوني المنطبق على مكافحة القرصنة والسطو المسلح في البحر. وذلك على النحو الذي تجسده اتفاقية الأممالمتحدة لقانون البحار، المؤرخة في 10 كانون الأو ل/ ديسمبر من العام 1982 ، ولا سيما موادها (100) و(101) و(105) . وعلى الرغم من ذلك، يُمكن القول إنه إذا كان المجتمع الدولي موحداً في تشخيصه للتحدي القائم، ومتفقاً على حقيقة مخاطره، فإنّ المقاربات المتداولة لديه، بدت متباينة من حيث السياسات التفصيلية التي يجب اعتمادها لمواجهة المعضلة، والتغلب عليها. وفي المقاربة الكلية للمعضلة، ثمة معطيات سياسية وأمنية واقتصادية، ذات دلالات استراتيجية فائقة. وهناك أبعاد إقليمية ودولية للمعضلة الماثلة، تتكامل فيما بينها، أو تتداخل كحد أدنى. وإضافة للتحديات الأمنية والسياسية، ثمة معضلة قانونية فرضت نفسها على المقاربات الدولية الخاصة بمواجهة القرصنة في بحر العرب.فمن يعتقل القراصنة؟، وإلى أين يتم تسليمهم؟، وبموجب أية قوانين تجري محاكمتهم؟ على صعيد الاتحاد الأوروبي، تم إيجاد ما وصف بأنه "إطار عام" لتسوية وضع القراصنة الذين يتم القبض عليهم من قبل القوة الأوروبية. ووفق هذا الإطار، سوف تتمكن سفينة أوروبية تكون قد اعتقلت قراصنة، ولا تسمح لها قوانينها باحتجازهم، من نقلهم إلى سفينة دولة أوروبية أخرى يحق لها اعتقالهم ومحاكمتهم. ورأى الاتحاد الأوروبي بأنه يُمكن كذلك تسليم الموقوفين إلى الصومال، أو أية دولة مجاورة، "شريطة إعطاء ضمانات بعدم إعدامهم أو إساءة معاملتهم". بيد أن هذا "الإطار المبدئي" لا يحل، على الرغم من ذلك، الأبعاد المختلفة للمعضلة القانونية التي تفرض نفسها على هذا الصعيد. ولا زالت هناك وجهات نظر متفاوتة حول الأبعاد القانونية لاعتقال القراصنة ومحاكمتهم. ويسعى مجلس الأمن الدولي حالياً لتلمس سبل وسط، وخيارات مجمع عليها، للخروج بمقاربة كلية وجامعة في هذا الشأن. وأشارت المادة (16) من قرار مجلس الأمن الدولي الرقم (2015)، الصادر في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، إلى أن المجلس قرر مواصلة نظره على سبيل الاستعجال في إنشاء محاكم متخصصة لمكافحة القرصنة في الصومال ودول أخرى في المنطقة، بمشاركة قوية و/أو دعم قوي من المجتمع الدولي. وطلب القرار من الأمين العام أن يواصل، بالتعاون مع مكتب الأممالمتحدة المعني بالمخدرات والجريمة وبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي، التشاور مع الصومال ودول المنطقة، التي لديها استعداد لإنشاء محاكم مكافحة القرصنة، بشأن نوع المساعدة الدولية المطلوبة، بما في ذلك توفير موظفين دوليين، للمساعدة في تشغيل هذه المحاكم، والترتيبات الإجرائية اللازمة لنقل القراصنة المقبوض عليهم، وما يتصل بذلك من أدلة. وكذلك القدرة المتوقعة لهذه المحاكم من حيث عدد القضايا التي يمكنها الفصل فيها، والمدة الزمنية والتكاليف المتوقعة. وما يُمكن قوله خلاصة هو أن القرصنة البحرية، في بحر العرب والمحيط الهندي، تمثل اليوم معضلة استراتيجية، تتداخل أبعادها الأمنية والاقتصادية والسياسية على نحو وثيق. وعلى المجتمع الدولي تعزيز جهوده وتنسيقها، بأقصى قدر ممكن، لمواجهة هذا التحدي والتغلب عليه.