ترى ما الذي دعا إسرائيل الآن للموافقة على انجاز صفقة شاليط ، بعد خمس سنوات من المفاوضات؟ وفي محاولة للإجابة على هذا التساؤل طُرح مؤخراً أربعة مبررات للموافقة الاسرائيلية هذه، اثنان منها رسمية، المبرر الرسمي الاول يتعلق بالليونة التي طرأت على موقف حركة حماس. ففي يوليو/تموز الماضي قال ممثل رئيس الحكومة في مفاوضات شاليط، دافيد ميدو ان إسرائيل تلقت وبشكل غير مباشر وثيقة من حماس تضمنت البنود التي تريد أن تكون في الصيغة النهائية للصفقة. وهذه هي المرة الاولى التي تدرك فيها الاجهزة الأمنية في اسرائيل أن حماس تفكر في قبول اثنين من طلباتها التي كانت حجر العثرة الاساسي في المفاوضات وهي إطلاق سراح أهم الاسرى وتقليص عدد الذين سيبعدون خارج الضفة الغربية. وطوال جولات المفاوضات الست السابقة التي بدأت في القاهرة وحتى إتمام الصفقة كانت مصر ترفع دائماً مستوى وساطتها، وأعطت إسرائيل من جانبها عدداً من التنازلات مقابل المرونة الفلسطينية. وضمت قائمة الاسرى الذين سيتم تحريرهم نشطاء بارزين نسبياً في الذراع العسكري لحماس في الضفة، وعددا قليلا من عرب 48 وسكان القدسالشرقية. وعزا رئيس جهاز (الشاباك) يوارم كوهين التحول في حماس الى عدة اسباب، منها إدراك قادة حماس أخيراً أن إسرائيل لن توافق على إطلاق سراح الاسماء الكبيرة حتى لو تعرضت لضغوط كبيرة، بدورها ضغطت مصر عليهم للتنازل عن مطلبهم، فوضع قيادة الحركة في دمشق أصبح غير مريح بسبب الاضطرابات التي تجتاح سورية، كما أنها بحاجة لتحقيق إنجاز يقابل تحرك المنافس على الساحة الداخلية وهو السلطة الفلسطينية التي تحسنت صورتها عقب ذهابها الى الاممالمتحدة سعياً للاعتراف بها دولة مستقلة. أما المبرر الثاني فيتمثل بحديث رئيس الحكومة نتنياهو عن الفرص السانحة. وبحسب نتنياهو فإن التغييرات الكبيرة التي تشهدها منطقة الشرق الاوسط قصرت المدة الزمنية وسرعت انجاز الصفقة. ويحتمل أن ينشغل مسؤولو المخابرات المصريون خلال الشهرين المقبلين بأزماتهم الداخلية في القاهرة عن القيام بدورهم بالوساطة. ولهذا قال رئيس (الشاباك) كوهين «أعتقد أن هذه أفضل صفقة توصلنا اليها». ولكن يبدو أن استخدام الوضع المصري الداخلي للتبرير مثير للشكوك، لان وضع المخابرات المصرية مستقر نسبياً ولايُتوقع أن يطرأ عليه تغير جوهري خلال السنة المقبلة. وفي المرحلة السابقة من المفاوضات والتي رعتها المانيا نجحت الاخيرة قبل ثلاث سنوات في التوصل الى صفقة بين اسرائيل و «حزب الله». ويبدو أنه حتى في حالة شاليط كان من الممكن تحقيق صفقة تبادل. المبرر الثالث مفهوم من تلقاء نفسه، حتى لو لم يتحدث عنه أحد علناً، فرئيس الحكومة (نتنياهو) يعيش ضائقة سياسية ليست سهلة، كما أن وسائل الاعلام تتهمه دائما بالتردد والبطء في اتخاذ القرار وبمسؤوليته عن حالة الجمود السياسي. كما أن الاحتجاجات على الاوضاع الاجتماعية أفقدته هدوءه. ولكن عندما يكون غلعاد شاليط في طريقه الى بيته فمن سيستمع حينها الى دافني ليف الفتاة التي أشعلت الاحتجاجات في إسرائيل؟. أما بالنسبة للمبرر الرابع فهو يتعلق بموضوع إيران وسيأتي تفصيله لاحقاً. مع عودة شاليط سيعم إسرائيل حالة من الارتياح العام، وكأن الاسرائيليين خرجوا للتو من حرب، وستنتهي هذه القصة الموترة للاعصاب بمجرد اجتماعه بعائلته. لكن هذه الاجواء الاحتفالية لن تستطيع محو المرارة التي تصاحب اتمام الصفقة، فتحرير (القتلة) يعتبر ضربة قوية لمئات الاسر التي فقدت فرداً منها، كما أنه سيزيد من المخاطر التي تواجه الاسرائيليين خلال السنوات المقبلة. لقد أنهت إسرائيل قضية الجندي الأسير شاليط بسبب سلسلة من الاخفاقات ومنها الخطأ الذي أدى الى نجاح مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين في اختطاف جندي من داخل الدبابة الاكثر تحصيناً في العالم، أما الاخفاق الثاني فتمثل في فشل جهاز (الشاباك) طوال السنوات الماضية في تحديد مكان احتجاز شاليط في غزة، إضافة الى عدم تدخل الجيش نهائياً في القضية، وانعدام فرص استعادة الجندي بعملية عسكرية. كذلك شابت المفاوضات الكثير من العثرات والاخطاء الفنية. فمكتب رئيس الحكومة السابق ايهود اولمرت أعلن في السابق أنه «سيركع حماس»، وأضاع الكثير من الوقت قبل أن يقرر التوجه للمفاوضات الجادة. أما نتنياهو فبقي متردداً طوال سنتين حتى استطاع اقتناص الفرصة للتوقيع على صفقة جيدة لتبادل الاسرى. الجرأة التي ابداها نتنياهو في توقيعه للصفقة تثير القلق بالنسبة لمواضيع أخرى. فمثلاً جرأته هذه هل ستنسحب على الشأن الايراني؟ الامر متعلق هنا وبشكل كبير على شريكه وزير (الدفاع) ايهود باراك. وبما أنه لم يتبق الآن الا التعامل مع الملف الايراني فإن باراك لا يخفي رغبته في التعامل بصرامة وحزم في هذه القضية. تُرى هل موضوع شاليط مرتبط بايران؟ الاسبوع الماضي كتب الصحافي أمنون ابراموفيتش مقالاً في صحيفة «يديعوت أحرونوت» قال فيه ان هناك خلافاً كبيراً بين ايهود باراك واشكنازي حول القضية الايرانية. وهذه الحقيقة الشاملة تُفسر كل ما جرى خلال السنتين الماضيتين، رغم أنها غير مقبولة لدى مراقب الدولة لانطوائها على ضغينة شخصية بين الاثنين، ولهذا يبدو أن للعلاقة بين الموضوعين شكلاً آخر. فعندما يكون باراك أكثر جرأة ونتنياهو مفعما بالثقة، ستكون صفقة شاليط بمثابة تنظيف الطاولة لدراسة تحديات أكبر بكثير ومن بينها ايران. وقبل الاعلان عن توقيع الصفقة الثلاثاء الماضي نشرت صحيفة «الايام» الفسلطينية لقاءً مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ،الذي اصبح شعبه يحترمه عقب توجهه للامم المتحدة، وأعلن مجدداً أنه لا ينوي الترشح لرئاسة السلطة. وحتى الآن وعلى رغم توقيع اتفاق المصالحة بين فتح وحماس في القاهرة في مايو/ايار الماضي لم نشاهد أي علامات للتصالح على الارض، من شأنها أن تهيئ الارضية لاجراء انتخابات برلمانية ورئاسية متفق عليها. وربما أنه فور اتمام صفقة شاليط سيتجدد الضغط على السلطة لقبول وثيقة مايو التي تقضي بتشكيل حكومة وحدة وطنية ومن ثم إجراء انتخابات. لقد وقعت حماس على وثيقة المصالحة بعد أن شعرت بالضائقة التي تعيشها، فقد جاء رئيس المكتب السياسي في الحركة خالد مشعل الى القاهرة في مايو الماضي لحضور مراسم التوقيع واعرب هناك عن استعداده لاعطاء فرصة أخرى للسلام، دافعه في ذلك خشية قيادة الحركة من أن تطال موجات الربيع العربي قطاع غزة، واضطرت الحركة للتعايش مع الاتفاقية الاصعب من وجهة نظرها. ذلك لان استطلاعات الرأي العام الفلسطيني أشارت الى انخفاض شعبية الحركة، كما أن صعود نجم السلطة الفلسطينية بعد ذهابها الى الاممالمتحدة زادت من خطورة وضع حماس ولم يتبق للانتخابات سوى سنة واحدة. كما أن رفض مصر فتح معبر رفح أمام الفلسطينيين زاد من أزمة الحركة لانها لم تحقق أي انجاز واضح على الارض، ويبدو أنها منذ مايو الماضي وهي تسعى لتحقيق إنجاز ما. وقال مسؤول مصري رفيع ل»هآرتس» شارك في الوساطة في صفقة شاليط إن المحادثات التي سبقت الصفقة كانت صعبة للغاية. وكان من السهل استشعار مدى الاحباط لدى رجل مدير المخابرات المصرية مراد موافي بسبب طول المفاوضات. ولكن عندما كان الاسرائيليون يزعمون لسنوات بأن حماس لا تريد فعلاً التوصل الى صفقة، كان المصريون يقولون شيئاً آخر. فأحد الوسطاء المصريين قال في شهر يوليو/تموز الماضي ان إسرائيل تتعامل مع المفاوضات وكأنها تجارة كاسدة ، فقد كانت تماطل وتخفض سقف طلباتها حتى تحصل على جميع مطالب الخصم. الا أن هذا الكلام غير صحيح.فالطرف الذي كان يتراجع طوال الفترة الاخيرة كان حماس. إن تهرب وتملص حماس هذا سيجعلها عُرضة للانتقاد من جانب كبار المسؤولين في حركة فتح، وسترد حماس بالمقابل بايضاح مكاسبها من الصفقة، والمتمثل بالعدد الكبير من الاسرى المحررين. وقال أحد القياديين في حماس بداية الاسبوع ل»هآرتس» ان حماس ترى في الصفقة نقطة تحول سياسية، ستمكنها من البدء في إعمار البنيه التحتية المدنية في الضفة وتزيد من شعبيتها في أوساط الجماهير الفلسطينية. لا شك أن الميزان بين فتح وحماس سيتغير عقب التحرير، على الاقل لفترة ما. فقد قال أحد مسؤولي فتح «أثبتت إسرائيل للجمهور الفلسطيني أنها لا تفهم الا لغة القوة، لغة حماس». ويتزايد القلق لدى السلطة وفتح بسبب حالة الجمود التي طرأت مؤخراً على الحدود مع قطاع غزة، فكل من الجيش الاسرائيلي وحركة حماس لا يريد اندلاع مواجهة مسلحة جديدة، كما أن إسرائيل ألغت قدراً كبيراً من شروط الحصار الاقتصادي الذي فرضته سابقاً على غزة. ويخشى المسؤولون في رام الله أن إسرائيل وحماس تريدان الحفاظ على الوضع القائم في المناطق الفلسطينية وإنهاء جميع فرص التوصل لتسوية سلمية. وفي هذا السياق فمن اللافت أن حماس لم تستأنف أو تعارض قرار إسرائيل باشتراطها تضمين القيادي في فتح مروان البرغوثي في الصفقة، والذي يعتبر الوريث الاكبر حظاً لعباس. صحيح أن البرغوثي مُدان بقتل خمسة إسرائيليين إلا أن من بين الاسرى من قتل أكثر منه. واذا ما جرت انتخابات في المناطق الفلسطينية وتمسك عباس بعدم ترشحه فيها ففي هذه الحالة سيسقط احتمال أن يحل مكانه زعيم صلب في التعامل مع اسرائيل وفي نفس الوقت يرفع راية السعي للوصول الى السلام. إن الرفض الاسرائيلي لاطلاق سراح البرغوثي- الذي يبدو أن وراءه ضغط اليمين السياسي - سيمنع فتح من تقديم مرشح باستطاعته هزيمة حماس في الانتخابات. * صحيفة «هآرتس»