عندما كانت القرى منغلقة والمدن محروسة بتكومات الرمال وتعانق التصاقات الصخور ولا أحد يعرف ماذا في شمال حدوده وماذا في غربها أو شرقها.. ربما لو سألت بدوياً آنذاك من ذا خلف شمال بلادك لقال.. الرولة.. أو شمر، أما أي اسم من الشام فهو غير معروف، نفس الشيء لو سئل آخر عن جوار الجنوب لركز على ذكر قحطان ومن يتداخل معها وفي ثقافة القرية الصغيرة كان يتم وباستغراب ترداد هذا البيت: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا.. لنا الدنيا ومن أضحى عليها ونبطش حين نبطش قادرينا.. فتتجاذبه مشاعر مختلفة.. شعور عميق بالاعتزاز أنه ينتمي إلى أصول لها مثل هذه السطوة ثم لا يلبث أن يتراجع ويؤكد أن الإسلام قد ألغى مبدأ وجود الجاهلين ومفاهيمهم.. لا أحد حوله.. يناقشه.. يختلف أو يتفق معه.. آنذاك.. أما الآن فهو في واقع مختلف تماماً.. لكن ماذا لو عايش ما هو الآن موجود في عالمنا العربي من «جهل فوق جهل الجاهلينا» وكيف أصبح «البطش» وسيلة ردع أي وجهات نظر لأي طرف آخر.. لا يقف الأمر عند حدود إدراك وجود سطوة القسوة وإنما يتجاوز ذلك إلى صعوبة تحديد ما هي القسوة.. وصعوبة مبررات ما يحدث.. إن حدود العالم العربي أشبه ما تكون بمحتوى متعدد الثقوب في أسفله.. كلما أضيفت إليه مستجدات مفاهيم كلما تساقطت إلى أسفل ولونت بتعريف أسوأ مفاهيم كأن يكون إطلاق النار على امرأة تمر بطفليها وسط مظهر احتجاج برهاناً على وجود حرية تعبير.. وحين يتعذر وجود صراعات دينية لوقت قصير فإن هذا الوقت القصير يمكن أن يملأ بمسميات مطالب اجتماعية يتساقط تحت راياتها شبان يفتقدون تأهيل كفاءة التفكير.. لكن الأمر عندهم حرية وديموقراطية والمنظار الإيراني من جهة ومثله الأمريكي من جهة أخرى يتابعان بتلذذ ساخر تموجات التمزق وتعدد مصادر الرعب.. وثمة طفولة يهودية تحت المظلة الأمريكية تجد أوقاتاً عديدة مناسبة كي تمدد ساقيها على كل تراب قريب.. إن جيل الأجداد في أرضنا الذي لم يكن يعرف جنوب أرض أو شمالها أصبح أحفاده الجيل المعاصر يعيش وأمام أفكاره ورؤاه برهنة تفوق إمكانيات وبرهنة إيجابيات تطور جعلته موجود احترام في أقصى امتداد شمال أوروبا وكذا جنوبها وفي أقصى شرق الامتداد لآسيا. وما يحدث أمامه في واقع العالم العربي الراهن هو برهنة ضرورة ابتعاد عقلي عن واقع التخلف العربي لكي يحافظ ليس فقط على وحدة وجوده ولكن على تعدد كفاءات هذا الوجود..