كنت في قراءة تأملية لقوله تعالى في سورية مريم: (فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا) وكنت في تأملي لهذه الآيات الكريمة أتصور مريم وهي تحمل وليدها على كتفها وتعيش عيشة القلق والاضطراب ودليل القول عليها وعذلها وأنها جاءت في حال شاذة عما عليه أبوها وأمها وأخوها هارون من حياة شريفة نزيهة كريمة دليل ذلك عليها ما تحمله على كتفها وما وجه إليها من عبارات التنديد والاستنكار واللوم الجارح حتى انها ما استطاعت أن تجاوبهم فأشارت إلى الغلام أن خذوا منه الجواب. قالوا زيادة في التبكيت والتأنيب والسخرية (كيف نكلم من كان في المهد صبيا) فأنطقه الله بلسان فصيح: إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيا إلى آخر ما قال. فكان هذا فرجاً من الله لحال بلغت من الإحراج مبلغه ومن الضيق أضيقه ومن الكرب أشده، وصارت هي وابنها آية من آيات الله ووصفها الله تعالى بالصديقة التقية العفيفة القانتة. ومثل هذه الصورة قصة إبراهيم عليه السلام حينما أراد به قومه الكيد فقرروا إحراقه ورموه في المحرقة المؤججة بالنار فقال الله للنار: كوني برداً وسلاماً على إبراهيم. وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين. فهذه حال من أحوال فرج الله وكشف الغمة والنصر المبين من حيث لا يتصور حصوله. ومثال ذلك أيضاً حال موسى عليه السلام مع فوقه حينما انبرى لهم فرعون وقومه وحاصروهم أمام البحر قال تعالى في ذكر خبرهم وتصوير حال موسى وقومه والعدو أمامهم والبحر خلفهم: فأتبعوهم مشرقين. فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون. قال كلا إن معي ربي سيهدين. فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم. وأزلفنا ثم الآخرين. وأنجينا موسى ومن معه أجمعين. ثم أغرقنا الآخرين) انظر أخي القارئ إلى موسى وإيمانه بربه في أحلك الأحوال وأضيقها وأشقها. العدو أمامه والبحر خلفه وأصحابه في عذل ولوم متتابع إليه وفي واقع الحال يقول موسى انبعاثاً من إيمانه بربه وبقدرته الشاملة ورداً على التحسر من الحال: كلا إن معي ربي سيهدين. فما هي إلا لحظات فإذا المعجزة تقع وإذا البحر تنفرج منه مجموعة طرق تتحول إلى أرض صلبة جافة تسير فيها الأفراد والجماعات والركبان كما تسير في طرق الصحراء فيسير فيها موسى وقومه آمنين مطمئنين ثم تتبعهم جموع فرعون وهو يقدمهم فتعود هذه الطرق إلى حالها الأولى بحر أجاج يغرق فيه فرعون وجميع جموعه وينجو موسى وقومه. وصدق موسى عليه السلام حين قال: كلا إن معي ربي سيهدين. ومثل ذلك حال رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزوة بدر حينما جاءت قريش بقضها وقضيضها وعددها وعدتها وصلفها وكبريائها وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال من الضعف وقلة العدد والعدة وحين التقى الجمعان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال من الخوف والقلق فلجأ إلى الله تعالى متذللاً متضرعاً مبتهلاً ملحاً في ربه في طلب انفراج الكربة ونصر المسلمين حتى إنه صلى الله عليه وسلم نسي سقوط ردائه وهو يبتهل إلى الله ويتضرع إليه ويقول مما قال: اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعدها أبداً، فجاء نصر الله والفتح قال تعالى: ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون. إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين. بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين - إلى قوله تعالى - وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) فكانت هذه المعركة فرقانا بين الحق والباطل ونصراً لرسوله وللمؤمنين ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً. إننا من هذه الصور الحية الثابتة نخرج منها بالايمان بالله رباً وبه إلهاً وبه حسيباً وكافياً ومولى ونصيراً وأن قدرته الشاملة ومعيته الخاصة فوق كل اعتبار وتوقع، قال تعالى في شأن أصحاب رسول الله وصدقهم في ايمانهم ومع رسولهم: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل. فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله) وهكذا من كان مع الله فالله معه قال تعالى: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا) وقال تعالى: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) وقال تعالى: (فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا) والله المستعان. * عضو هيئة كبار العلماء