هكذا هي الأمم وتلك سنن التاريخ، ينبثق شعاعها شيئًا فشيئًا إلى أن يمتد ضياؤها ويقوى بعد برهة من الدهر ويبلغ سناها مداه ويتلألأ في جنبات الكون، وتحفظ إنجازاتها في أسفار المؤرخين وسجلات الخالدين. لكنها لا يمكن أن تكون كذلك دون أن تُبذل التضحياتُ من المهج والدماء، ودون تسابقٍ في المبادرة والعطاء، ودون أن تتواصى الأجيال دومًا بالمحافظة على (العهد) وحماية المكتسبات واستمرار مسيرة الإصلاحات والإنجازات. وهذا ما فعله الرواد الذين قادهم الملك عبدالعزيز رحمه الله في بدايات تأسيس هذا الكيان الكبير، بتفانٍ منقطع النظير، ليس في الحروب التي خاضوها فحسب، بل حتى في ملحمة التنمية والبناء، فاختصروا الزمن وقطعوا المراحل، بصورة أدهشت الآخرين، وما ذاك إلا بتوفيق الله ثم بما أنعم به الباري عز وجل على ذلكم القائد الفذ بصفاتٍ قلما تتوافر في الزعماء والرؤساء قديمًا وحديثًا، فقد جمع حنكة الساسة وحكمة الشيوخ وحلم الملوك وحزم القادة وبصيرة المصلحين، ومن ثم فقد اعترف له الجميع بالفضل، وشواهد ذلك يعرفها القاصي والداني. وما (اليوم الوطني) إلا محطة نستذكر فيها ماضينا التليد ونتبصر في حاضرنا الجميل ونستشرف مستقبلنا المشرق، لنأخذ من خبرة الأمس وتجارب اليوم وقودًا نتزود به للغد. ولئن كان المقامُ مقامَ فرحٍ واستبشارٍ وتهنئةٍ لقادة هذه البلاد وشعبها والمقيمين فيها، إلا أن حديثي - وليسمح لي إخواني القراء - سيكون إليهم، وذلك أن ما يعصف هذه الأيام ببعض الدول وتموج به الأحداث وتلوكه الألسن في أجهزة الإعلام وتسوده الأحبار فوق الصحائف الورقية والإلكترونية؛ يقتضي حديثًا يحفه الصدق وتحيط به الشفافية. وفي هذا الخضم المتلاطم قد تخفى الواضحات وتغيب الحقائق، ومن ثم يجدر بنا جميعًا أن نتنادى إلى الحق ونتمسك به وننضوي تحت لوائه ونرفع رايته، ومن أول ما ينبغي التأكيد عليه - وإن كان البعض يراه شيئًا هيِّنًا أو كلامًا إنشائيًّا - أن هذه البلاد قامت على دعوة التوحيد والاعتصام بالكتاب والسنة في جميع أمورها وأحوالها، وتلك حقيقة أظهر من أن يُستدل عليها، وحينئذٍ فلا نلتفت إلى مزايدة المزايدين شرقًا وغربًا في استمساكنا بالشريعة الإسلامية مهما قيل، ومهما تكاثرت الحكايات والأقاويل، التي هي - إن صدقت - شذوذٌ يؤكد القاعدة. وثاني ما أود تدوينه هنا، أن نفوسًا كثيرة تتطلع إلى بلادنا وتشرئب لها أعناقهم، طلبًا للرزق، ورغبةً في الإقامة، وبحثًا عن الأمن، ولا يشك أحد أن ذلك من فضل الله علينا وعلى هذه البلاد المباركة، وما أكثر نعمه سبحانه وتعالى، أسأل الله أن يديمها علينا وأن يحفظ لنا وطننا وقادتنا، ولذا أذكر نفسي وإخواني بقول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)«فاطر: 3». وثالث الأمور، أن يسعى كل واحدٍ منا في بذل ما يستطيع من جهدٍ في إصلاح نفسه وتطويرها أولا والعناية بأسرته وأهل بيته والاهتمام بما يجلب النفع لمجتمعه ثانيًا، وبهذه الأشياء - التي قد تكون صغيرة في أعين البعض - تتقدم الشعوب وتُصنع الدول القوية والأمم المتحضرة، أسأل الله أن يوفق الجميع لكل خير، وأن يحقق الآمال والتطلعات. * رئيس هيئة الخبراء