كان " الحاوي " الذي يطوف شوارع المدن والقرى ، الوسيلة الوحيدة لتسلية الناس وابهارهم بألعابه العجيبة ، كالنوم على المسامير والزجاج المكسور ، و" أكل النار " .. حتى صارت مهارته وخفة يده مضرب الأمثال : " ياما في الجراب يا حاوي ". كان ذلك قبل عصر السماوات المفتوحة والنت ، الذي قضى على الحواة و" القراداتية " ، الذين كانوا يتسولون بالقرود ، حتى وان كان المثل الشعبي يقول : " يغور الشهد من وش القرد " .. ولم يبق من " عزبة القرود " القريبة من ميدان رمسيس بوسط القاهرة سوى اسمها . لكن للضرورة أحكام .. ومنها أن البعض لا يزال لا يعرف أن يكتسب رزقه إلا ب " أكل النار " ، أو القفز من الاطارات المشتعلة .. وهو هذه المرة ليس حاويا ، وانما فتاة حفيدة " حاو" قديم ، دفعتها الظروف لإعادة احياء مهنة أبيها المنقرضة. «أحمد» يأكل النار وينام على المسامير والزجاج المكسور.. ويتسرب الكيروسين إلى جوفه مسبباً أمراضاً صدرية ونزلات معوية في وسط القاهرة المزدحمة بالبشر من كل جنس ولون ، يختار أحمد أحد المقاهي ليظهر مهارته يتصنع البهجة بألعابه المثيرة.. يتوقف دقائق أمام كل مقهى ليقدم استعراضاته ، ثم ينصرف بعد أن يحصل على ما يجود به الناس ، ليعرض ألعابه أمام مقهى آخر. «حفيدة» حاوٍ قديم دفعتها الظروف لإعادة إحياء مهنة «جدها» المنقرضة بالقفز من «الإطارات المشتعلة»! الحاوي الصغير يقول : تعلمت اسرار المهنة من والدي ، وكنت أساعده خلال جولاته في الموالد والأفراح الشعبية ، لكنه لم يكن يحبذ أن يمارسها لصعوبتها وضعف ريعها ، فالناس لم تعد ترى اعجازا كبيرا في أداء هذه الألعاب .. لكنني لم أتعلم شيئا آخر أكسب منه رزقي . وعن ألعابه يقول : نبدأ أنا وشقيقي الأصغر في جمع الناس بالنداء عليهم ، ونثير فضولهم ليتوقفوا لمشاهدة الألعاب الخطيرة ، وبعد أن يتحلقوا في دائرة أكون أنا في وسطها ، أبدأ في تقديم الفقرات الاستعراضية ، التي تبدأ بإخراج ألسنة اللهب من فمي ، من خلال ملئه بالكيروسين ، ثم تقريب شعلة من فمي ونفخ الكيروسين فيها ، فتصنع لسان لهب قد يمتد إلى مترين.. تعقبها فقرة أخرى أكثر إثارة بالقفز من وسط طوق مشتعل ، وإذا كان الجمهور غفيرا ومتجاوبا ومتحمسا ، فإن لأمور تنبئ برزق جيد ، وأعرض فقرة النوم على لوح خشبي مثبت فيه مسامير ، ثم أدعو شقيقي الصغير للمشي فوقي ، وهي فقرة غاية في الخطورة وتأخذ بألباب الجمهور ، خشية أن تنغرس المسامير في ظهري. القفز في اسطوانة مشتعلة.. لعبة تتكرر، والجمهور من الاطفال بعد لحظة صمت يعاود حديثه بنبرة حزينة قائلا : إنها مهنة صعبة ومهلكة .. فاستنشاق الدخان وبلع الكيروسين الذي قد يحدث أحيانا رغما عني يصيبني بالأمراض الصدرية والنزلات المعوية ، ورياح الشتاء كثيرا ما تغير اتجاه شعلات النار لتحرق وجهي .. لكنني أعزي نفسي بأن لكل مهنة مشاكلها وأخطارها.