من القيم العظيمة في الإسلام ما يؤكد عليه دائماً من دعوة إلى العمل، وفي كثير من الأحيان يبدو العمل نوعاً من العبادة، ومعروفة إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم حين سألوه عن رجل ترك كل شيء وانقطع للعبادة، فقد سألهم: ومن يتكفل به، قالوا كلنا يا رسول الله، قال: كلكم خير منه.. دعوة إلى العمل يصون فيها الشرف وإعلاء الضمير وعد بالثواب والعقاب.. (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم).. الحياة تعمر "بالفعل" بينما يتراجع "القول" إلى مرتبة الإرشاد أو النصح الذي قد يعود بطائل أو بخيبة أمل، فبين بزوغ الشمس وبين بزوغها مرة تالية مساحة زمنية محسوبة على عمر الإنسان، البعض يستثمرونها في العمل، وآخرون يستهلكونها في الثرثرة. اعتاد الناس، الذين يمارسون أعمالاً شاقة، على إجابة ثابتة وجاهزة حين يسألون عما دفعهم إلى اختيار ذلك العمل: "أكل العيش مر"، عبارة يجدون فيها السلوى عن قسوة العمل، تمسح عن كواهلهم ما ناءت به طوال اليوم، وتمنيهم بحسن الجزاء. لكن هناك فئة من الناس تخرج عن هذا السياق إلى ما يعتقدون أنه هروب من "المر" إلى "الأمر".. رجل ضخم الجسم مفتول العضلات، ضاق جلده على عضلاته فبدا كما لو أن العضلات تحاول شق الجلد والخروج، بينما الجلد يكابد في كبح جماح هذا التفجر، يلف حول عنقه ووسطه سلسلة غليظة من الحديد يمكن أن تجر بيتاً أو طائرة، يتحلق الناس حوله وهو يستحثهم أو يستفز فيهم رغبة التحدي: "أبغى عشر جدعان يكتفوني"، يتقدم إليه "الفتوات" ويحكمون وثائقه بالسلسلة ويلقون به إلى الأرض، يدخل الرجل في صراع مع القيود حتى يحرر نفسه، ورجل أو امرأة أحياناً، تحمل شعلتين مطفأتين وتمر على المقاهي، تملأ فمها ب"الجاز" وتنفث منه النار لتتوهج الشعلتان، تأكل إحداهما مشتعلة لتطفئها وتشعل من فمها أخرى في استعراض لمهارة أكل النار واللعب بها، ورجل آخر يلتهم رقائق الزجاج المكسور ويبتلع المسامير، وآخر يدخل في حلقه عودا من الخزيران بطول متر ونصف حتى يختفي، وغيره ينام على "حصيرة" المسامير شبه عار ولا يتأوه، وآخر يمشي درباً كاملاً فوق النار أو فوق المسامير حافي القدمين، وغيره يمد ذراعه لتمر فوقه سيارة نقل محملة، وغيره يلقي بنفسه موثوق اليدين والرجلين إلى النهر أو البحر ويحرر نفسه تحت الماء في صراعه مع الموت غرقاً إلى أن يخرج مع آخر أنفاسه، والنماذج كثيرة تصادفنا في بلد أو آخر، لا يختلف عنها ربما المغامرون في قفزات خطرة بالدراجات النارية أو السيارات.. من أجل أي شيء وهم لا يحظون بعد كل عرض يشارفون فيه على الموت إلا بقروش بسيطة ينالونها بالاستجداء؟ وإن سئلوا بادروا بالإجابة الجاهزة: "ما رماني على المر إلا الأَمَر". هذه أعمال شاقة لكنها لا تعود على الآخرين بأي شيء، وهؤلاء كذابون لا يمارسون عملاً بل بلطجة، لا أجد في نفسي أقل تعاطف معهم، يريدون كسباً مجانياً ولو كان قليلاً، نوع من الشحاذة، فآكل النار لو عمل في إطفاء الحرائق لنفع الناس وأفاد نفسه بدخل أفضل، والفتوة صاحب السلاسل لو عمل حمالا لجمع المال وما رأى "المر". الحقيقة - أعترف - أنا لا أكتب هنا عن هؤلاء لأنهم غير جديرين بالكتابة.. تحديداً أكتب عن بلاد مثل اليابان ومثل "أمريكا"! اليابان أعملت الرأس والساعد وقدمت للبشرية تكنولوجيا هذا العصر، وأمريكا دائماً ما تبدو لي ذلك الفتوة مفتول العضلات حامل السلاسل، مع تغيير بسيط في النداء، فبدلاً من "أبغى عشر فتوات يكتفوني" تصرخ "حد عامل جدع؟.. حد يحب تعلم الأدب".. أمريكا التي لا تتجرع "المر" من أجل العيش، وإنما تتفنن في أن تسقي الآخرين ما هو "أمر".