حينما يتوهم الإنسان أنه مدرك لمفاهيم الحياة وعلومها، ويتجاهل - وفقاً لهذا الوهم - مفاهيم الآخرين وعلومهم؛ فإن ذاته تتضخم، ويدفعه غروره نحو القناعة بإمكانية (الاستقلال المعرفي). وقد لا يتبيَّن هذا المتوهم مسلكه الخاطئ، وتراه يستنكر دائماً طروحات وآراء معارفه الآخرين، بل ويحاول أن يدمغ ما يصدر عنهم بالضحالة أو الخطأ.. يفعل ذلك وكأنه ملك ناصية المعرفة والفكر والتقويم. مثل هذا الإنسان واقع دون شك في فخ الغرور، ويتملكه مرض نفسي يجعله يستقرئ حال الآخرين بمنظور (الدونية)، وكأنه يطل عليهم من عل.. فهم في تصوره أقل منزلة منه. وهذا بالطبع يعكس خللاً في نفسيته وضعفاً في تفكيره، وهذا (التضخيم) للذات يستذله ولا يرفعه، ولا يكسبه منزلة علمية كما يتوقع، ولنفرض أنه كان على علم بالفعل؛ فإن ذلك لا يبرر له ازدراء الآخرين أو الترفع عليهم، فالعلم بحر لا ساحل له ولا عمق محدود {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً}. نعم إن العلم مطلب هذه الحياة ومسيرتها، وكثير من العلماء نقشوا أسماءهم على ذاكرة التاريخ، ولكل منهم تخصصه ومجاله الذي يحلق فيه، وله قدراته العلمية والبحثية والفكرية التي تؤهله إلى مزيد من الإبداع والإنجاز. أما الإنسان البدائي فحياته رهينة ببيئته التي تصوغ فكره، وتحصره داخل سلسلة من الصور والمشاهد الثقافية التي تحيط به ابتداء من المحيط الأسري ثم تتدرج به إلى المحيط الاجتماعي، وبالتالي يتعمق انتماؤه وولاؤه لهذه الثقافة التي تنتج عن تراكمات معلوماتية.. في حالة وصول مثل هذا الإنسان إلى مرحلة الاستقرار المعرفي، والإدراك العقلاني؛ فإنه يقبل ما هو صالح للفكر ويؤكده. فالوعاء الثقافي الذي يحوي الصالح والطالح؛ يكون مشوشاً، ويصبح عليه تفهم وتقبل شيء من الثقافات الأخرى. فالثقافة إذن مجموعة من أفكار متماسكة، قد تكون نابعة من ضمير الواقع وعين الحقيقة، وقد تكون نابعة من ألياف الفكر ومن تموجات الذهن. وحينما نذكر كلمة الثقافة؛ فإننا لا نقصد الكلمات والتعبيرات؛ لأنها قد تكون واحدة أو متشابهة؛ بل نقصد (نوعية تلقي الإنسان للأفكار، ونوعية تفسيره للأحداث) فأهم شيء في الثقافة نتيجتها، والثقافة الصالحة لا بد أن تكون سلمية واقعية، أما المتقاعسة فيه ثقافة بطالة تدعو إلى الكسل والقعود بالذات.