تتقوض الأنظمة العلمانية الثورية الدموية؛ لأنها أصرت على الإمساك بأقفال أبواب الاجتهاد، ولم تفلح إلاّ في فتح باب واحد هو باب البؤس، كانت تخيف شعوبها من الشريعة.. مثقفوها يمتحون من التاريخ انكساراته وأسوأ ما فيه ليبرروا وجودها بنماذج مخجلة كالحجاج، بينما يبجلون السفاح القرمطي، كما يفعل مفكر النظام السوري (أدونيس)، الذي يتهم السقيفة بالانقلاب بينما يبرىء نظامه من الطائفية!. السقيفة نموذج أول راق، ليس لأن الصحابة أصحاب قوى خارقة، أو عقليات استثنائية، ولكن لأنهم مارسوا سنة الاجتهاد وطرح الأسئلة طاعة لربهم الذي يقول (وأمرهم شورى بينهم)، واقتداء بنبيهم عليه السلام الذي أرسله الله (رحمة للعالمين) ول(يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)، فهذا النبي الذي فصل في كيفية تحريك الأصابع في الصلاة، لم يحدد آلية معينة لحكم الناس أنفسهم.. تركها ميداناً لإبداع العقول مستنيرة بآيات لا حصر لها تلح على العدل، ولا يملك كائناً من كان دليلاً من القرآن أو السنة على آلية محددة للحكم، ولا أحد يملك دليلاً على أن آلية تولي (أبي بكر الصديق رضي الله عنه) هي الوحيدة الصحيحة، بل إن أبا بكر نفسه عندما تحدث في السقيفة لم يقدم دليلاً من القرآن ولا من السنة على أية آلية، رغم أنه ألصق الناس بنبيه وأعلمهم بسنته وأكثرهم اتباعاً له، فهو من انتقاه نبيه لإمامة المسلمين في الحج، ثم إمامتهم في الصلاة قبيل وفاته، وهو قبل ذلك صاحبه في مكة والغار، ومع كل هذه الصفات لم يجد رضي الله عنه يوم السقيفة سوى وجهة نظر، وقد تم رفض اجتهاده من قبل (بعض الأنصار)، فلم يماحك ولم يناكف، ولم يلو أعناق النصوص لتبرير وجهة نظره، بل اكتفى بالصمت، وهكذا طريقة تولي عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.. اجتهادات على غير مثال سابق. أجل.. اختلف الصحابة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحصرهم في قالب، بل أطلقهم ليبدعوا في مستقبل مفعم بمتغيرات يفترض باجتهاداتهم الاستفادة منها باتجاه العدل والرفاه.. اختلفوا لأنهم بشر، ثم بايعوا الصديق دون إراقة قطرة دم، وعبر حوار لم يستغرق الساعة، وهم الذين كانوا قبل عشرة أعوام ينحرون بعضا عقوداً من أجل بهيمة، ثم انتهت الخلافة الراشدة الأولى، لكن (الإسلام- الرشد) لم ينته.. ظل الرشد يشع على فترات: من هذا الخليفة أو الملك أو ذاك السلطان أو الأمير. أما معجزته عليه السلام ففي تحذيره من متطرفين يعشقون الدم عند التئام الأمة، وذلك عندما أوصى عثمان بعدم التنازل لهم، مع تلبيته رضي الله عنه لكل مطالبهم وعدم قمعهم.. هؤلاء يشاركون العلماني المتطرف السيطرة على أقفال الأبواب، فممارساتهم تحجب سنة (الاجتهاد) التي تركها عليه السلام لأمته ومارسها الراشدون.. العلمانية العربية وجه بشع للتطرف، فقد أثبتت بفشلها أنها أسوأ من حكم بلاد العرب والمسلمين، رغم أن العلمانية الحقيقية (الغربية) لا تعترف بمثال سابق، بل بالاجتهاد والتجربة واكتشاف الخطأ.. حاديها في ذلك العدل ورفاهية المواطن، ولكن لأن العلمانية العربية علمانية (قص ولزق) بامتياز.. تحولت إلى إبهار في التنظير وتخلف في الممارسة.. لا تملك أفقاً سوى أفق الإقصاء ونفي الآخر، وتزوير الانتخابات واتعاس الشعوب لدرجة أن يحرق الفقراء أنفسهم أو يلقونها في البحر. لقد ذُكر الطرفان في نصوص نبوية معجزة تقول: (سيكون أئمة من بعدي يقولون ولا يرد عليهم يتقاحمون في النار كما تتقاحم القردة – صححه الألباني) وآخرون(يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان - مسلم)، أما الأسوأ فهو أن تجتمع تلك الصفات في نظام أدونيس الذي لم يطلق رصاصة باتجاه يهودي يحتل أرضه، بينما يقتل من شعبه أهل الإسلام أكثر مما قتلت إسرائيل منذ قيامها.